لماذا عومل خير الدين الأسدي بالجفاء؟
ولد الباحث والمؤّرخ الموسوعي، خير الدين الأسدي، في حي الجَلُّوم بحلب، سنة 1898، وتوفي يوم 29 ديسمبر/ كانون الأول 1971، تاركاً خلفه موسوعة ضخمة، في سبع مجلدات، عنوانها "موسوعة حلب المقارنة"، صدرت، بعد وفاته، عن جامعة حلب، بتحقيق محمد كمال، وثمّة مجلد مفقود منها عنوانه "الفوات" وضع فيه الأسدي الأخبار والمصطلحات والطرائف التي لها علاقة بالحياة الجنسية، استلّها من الموسوعة، ليقينه أن الرقابة لن توافق عليها قبل الطبع، وقد يضرّ ذلك بطباعة الموسوعة برمتها.
ينتاب متصفّحَ موسوعة الأسدي الذهولُ عندما يرى أنها تتناول مفردات لهجة مدينة حلب، مقابلتَها مع غيرها، قواعدَها، أمثالها، حكمها، تهكّماتها، تشبيهاتها، استعاراتها، مجازاتها، كناياتها، تورياتها، جناسَها وطِباقَها، معتقداتُها، خرافاتُها، شِعْرَها، مواويلَها، أغنياتها، ألغازها، تصحيفاتها، معاظلاتها، مزاحها، نوادرها، هنهوناتها، مناغاة أمهاتها لأطفالهم، شِدِّيَّاتها، نهفات مجانينها، ملابسَها، مطابخها، أهازيجها، قراها، بواديها، حاراتها، ألعاب سهراتها، تملقاتها، الثقافةَ العالميةَ التي تشترك فيها، لوحات أناسها، عثرات أقلام كتّابها، اصطلاحاتها، أهازيجَها، نداءَ باعتها، عكاكيزَ كلامها، تندراتها، تملقاتها، ألعابها، لَخْمَاتِ أهلها وتَمَجُّكاتهم.
في يوم من الأيام، أعطت إذاعة دمشق مساحة لفنّاني مدينة حلب، ليقدّموا أعمالاً تمثيلية باللهجة الحلبية، وسرعان ما فكّر الفنان عمر حجّو بتحويل بعض فقرات موسوعة الأسدي إلى حلقات إذاعية. اتصل بي، وعرض عليَّ فكرة كتابتها، فأبديتُ استعدادي للكتابة، وأعلمتُه بأنني لا أمتلك نسخة من الموسوعة، فسارع إلى شراء نسخة، وأحضرها إليّ في إدلب، هدية منه، شريطة أن أطعمه شعيبيات بالقيمق، فكان ذلك، وأنجزتُ من المسلسل 75 حلقة، باللهجة الحلبية، أخرجها نذير عقيل.. أفكّر، الآن، أنه لو توفرت لنا ورشة من الكتاب الإذاعيين، لاستطاعوا اقتباس ألف حلقة من هذه الموسوعة، التي كان تأليفها يحتاج، في ظنّي، إلى مؤسسة بحثية كبرى، ومع ذلك أنجزها الأسدي وحده!
من نافلة القول إن بلادنا العربية، بشرقها وغربها، لا تتعاطف مع العقول التنويرية الخارقة، بل وتنبذها، وتصارعها، وتوجّه لأصحابها التهم والصفات السيئة جزافاً، والأسدي يحكي، في الموسوعة، عن شبّان اعترضوا طريقه، في منطقة باب الفَرَج، ومعهم جنزير طويل، وحاولوا التضييق، وصار يقاومهم بيدِه الوحيدة، فاليد الأخرى بُترت بعد محاولته، ذات مرة، إحداث تفجير أثناء إخراجه إحدى مسرحياته، ويحكي، كذلك، عن تحويشة عُمره التي اشترى بها بعض الأسهم في شركة الكهرباء، وبعد استلام البعث السلطة، أُمِّمَت الشركة، وطارت تحويشة العمر، فجاء البيت مسرعاً، ووقف أمام المرآة، وصار يحكي لشبيهه الواقف في المرآة، عما جرى لكبار المساهمين في شركة الكهرباء، وكيف أصيبوا بالفالج، فور تلقّيهم خبر التأميم، ويقنعه بأن مَن يخسر ماله لا يجوز أن يخسر صحّته أيضاً، وبقي يحاور نفسه، حتى تمكّن من إقناعه بالصبر، ومتابعة الحياة.
أما وفاة خير الدين الأسدي، فهي أم العجائب، بدليل ما كتبه أمير ناشر النعم، نقلاً عن الدكتور إحسان شيط، رحمه الله تعالى، أنه كان صديقاً لرئيس محكمة الاستئناف نبيه جبل، وكانا يزوران الأسدي في دار العجزة حيث قضى أيامه الأخيرة، ثم توفّي فجأة، فحضرت سيارة دفن الموتى التابعة لبلدية حلب، وأخذته، ودفنته في "مقبرة الصالحين"، من دون أن يصلي عليه أو يشيعه أحد، وقد ذهب "شيط" برفقة نبيه جبل لمعرفة قبره، وسألا حفّار القبور عن القبر فلم يتذكر، وقال لهما: ربما دفنته هنا، أو هنا، أو هناك، ما عُدت أذكر. وأما الراحل وليد إخلاصي، فقد روى لنا، في إحدى جلساتنا بمقهى القصر، إن حارس المقبرة كان قد باع جثمان الأسدي لبعض طلاب كلية الطب، لكي يأخذوا عليه دروساً في التشريح، وإن بعض محبّيه عرفوا بالأمر، واستطاعوا استرداد الجثمان، ودفنوه، ومن بعد بُذلت مساعٍ أدّت إلى منحه، بعد 12 سنة من وفاته، وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى.