لماذا نقبل التحدّي مع الرئيس الفرنسي؟
خلال زيارتي باريس لتحرير مادة مقالات بحثية تحت عنوان "العلاقات الغربية الإسلامية .. الطريق الثالث" في عام 2016، وبخلاف لقاءاتي في إنكلترا، كان أول استشكال في الرواق الباريسي هو لماذا العلاقة الغربية الإسلامية؟ لماذا ليس العلاقة الغربية - العربية، أو العلاقة الإسلامية – المسيحية؟ ربما هنا مدخل إلى إشارة الرئيس الفرنسي، ماكرون، في لقائه مع قناة الجزيرة، واعترافه بأن التجربة الأنغلوساكسونية أقل سوءًا في التعايش مع المسلمين من تجربة فرنسا، بسبب الحرب الدموية مع الدين. وأشار تحديداً إلى حرب الثورة في تصفية الملكية في فرنسا التي أورثت حقداً واسعاً في الفكر الجمهوري مع ميراث الدين، وبين الصفقة السياسية الإنسانية للتعايش التي أنجزها الثوار الإنكليز من نبلاء وعامة مع الملكية.
وليست مهمة هذا المقال تحديد من هو الأفضل، كما تساءل ماكرون الذي برز توتر شخصيته، جرّاء انعكاس حملته على الإسلام، وقضية الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم. والأخطر من ذلك هو أن تنزلق أوروبا في ظل الصعود اليميني الذي يشمل إنكلترا، في حرب ثقافية واسعة، تحصد أعمال عنفٍ كالتي تجري اليوم في فرنسا، وهو ما حذّر منه الكاتب مراراً منذ دعواته إلى صناعة جسور تعايش موثّقة، تقوم على احترام متبادل ومعايير إنسانية للقيم، وليس تفوق الغرب وحداثته المادية.
أعود اليوم إلى السؤال ذاته الذي توقف عنده الزملاء الفرنسيون، ولم يفعل البريطانيون الذين تفهموا عنوان البحث، وبالذات ذوي الإرث اليساري العريق في لندن. إن جدل العالم الغربي اليوم معنا، كوطن عربي وحاضر العالم الإسلامي مادته وقضيته الإسلام، وهذا ليس حكراً على المسلمين، بل معهم مسيحيو الشرق، بحكم الجوار والتداخل، فضلاً عن الانتماء العربي الموحد. ويشارك جدل اليوم وائل حلاق وعزمي بشارة، وهو كذلك في حركة المفكرين الوجوديين في الغرب، الذين يؤمنون بأن بنية العلاقة المنحازة مع الإسلام والمسلمين، هي أساس الإشكال الذي نعيشه اليوم، وبالطبع وللضرورة بمشاركة فاعلة لنخبٍ مختارة، من المفكرين المسلمين الإسلاميين والعلمانيين المعتدلين.
دعوة اليمين الفرنسي إلى تبنّي تشريعات حرب، جزء منها يوجّه إلى الفرنسيين المسلمين والمقيمين، ليس تهديداً للسلامة المدنية لهؤلاء فقط، وإنما لمستقبل فرنسا أيضا
وببساطة، لا سبيل إلى حل توافقي أو بسط قواعد أوثق، من دون أن نعيد صياغة المنطلق الذي نتجادل فيه، وتحديد معايير القياس الإنساني، وما هي مرجعية الخير والسلام للبشرية، لا سبيل إلى ذلك من دون حوار صريح مباشر، يحترم الإرث الحضاري للإسلام الذي لا يتطلب من الباحث الإيمان به، ولا أن يقدّم تزكيات مطلقة له، بل احترام دلالاته المعرفية، حتى تزال عقدة الاستعلاء العمياء التي حدّدها بدقة عقل فرنسا المغيّب، رينيه غينون. وكان مشفقاً على قومه، ونص على ذلك في كتابه أزمة العالم الحديث، من حيث رفضهم أي تواضعٍ واجب، لمراجعة الرؤية الكونية الإسلامية، ليس للإيمان بها، بل لكونها تعتمد قواعد صارمة في تعظيم الروح والقيم للإنسان، وفَصَل هذه المطالبة عن حياته الشخصية التي اعتنق فيها الإسلام دينا. غير أن مراكز الفكر في فرنسا ظلت تحتقر غينون، ولم تعطه معشار حقه، على الرغم من حدبه على فرنسا وطنا ونقده المخلص رواقها الأكاديمي الذي غرق في كراهيته واستعلائه.
ولم يتحدّث الرئيس الفرنسي، ولو بإشارة، عن علاقة فرنسا السيئة بالإسلام التي ذكرها، وقامت في غالبيتها الساحقة على حروب إبادة، وهيمنة رأسمالية، وليت ذلك كان في استقلالٍ عن معاهد الدراسة الاستشراقية الفرنسية، بل كانت تلك المهام الأكاديمية موظفة في حملات الإبادات، وهي قاعدة لا يختلف عليها إدوارد سعيد ووائل حلاق في إدانة الإرث الفرنسي الأكاديمي. وهو ما يجدر التوقف عنده في لقاء الرئيس الفرنسي، أخيرا، مع "الجزيرة"، حين قال "سنهتم بالدراسات عن العالم الإسلامي من جديد، وندعو المفكرين إلى المشاركة بآرائهم"، وهو موقف إيجابي، وإن ظللته الشكوك في النوايا، في ظل المعركة الانتخابية. ومع ذلك نقبل هذه الدعوة منه، لكن يجب ألا تكون من طرف واحد، يفرض رؤاه على طاولة البحث الجديد، وبالتالي يعود إلى التطرّف الاستعلائي، فتشعل جذوات حربٍ لا منائر سلام بين الأمم.
لا سبيل إلى حل توافقي أو بسط قواعد أوثق، من دون أن نعيد صياغة المنطلق الذي نتجادل فيه
دعوة اليمين الفرنسي إلى تبنّي تشريعات حرب، جزء منها يوجّه إلى الفرنسيين المسلمين والمقيمين، ليس تهديداً للسلامة المدنية لهؤلاء فقط، وإنما لمستقبل فرنسا، غير أن اليمين العنصري المتشدد، لم يجد ما يرفع به السقف إلا تشريعات الحرب، ففي المقابل، أغلقت المؤسسات الحاكمة وقاعدتها السياسية الباب على مزايدته، كونها تبنّت أقصى التشدّد في مواجهة المسلمين ومؤسساتهم. وهو ما على الرئيس ماكرون أن يهتم به، قبل أن يهتم في وقف حملة المقاطعة، والضمير الإسلامي الغاضب، فهذا الضمير حين يستمع من الإليزيه نصاً تصحيحياً واضحاً يحترم معتقداته، ويعتمد العلمانية الحقوقية وحق الضمير والتعايش، وليس المعيار المزدوج الذي يفرز المسلمين ويصب عليهم آذاه وسخريته، سيتجاوب فوراً، ويبدأ وجدانه بالهدوء وتقدير خطوات باريس التصحيحية إن وقعت، وهو ما نتمنّاه لكل أوروبا وأميركا الشمالية، علاقة توازن واحترام تعايشي، من أصول الفكر العلماني الذي لا يختلف عنه الأفق الإسلامي في فلسفته الأخلاقية، بل يتعدّاه حيث يرفض ويدين تحقير الديانات وسبها، هذا فضلاً عن أن الأساس في رسالة الإسلام مساواة الأنبياء، وهذا بعد تعايش إنساني.
هنا نعود إلى أهم نقطة، وهي: ما هو دور الجانب العربي، خصوصا الدول التي تملك مؤسسات وقضاء؟ وتبرز قطر هنا، وخصوصا في دلالة اختيار ماكرون "الجزيرة" منبر رسالته، وهي أننا اليوم بحاجة إلى مواقع مستقلة عن الشروط الغربية، تعمل في مسارين: كيف نصنع علاقة تعايش، على الرغم من الخلاف والصراع السياسي مع الغرب، وكيف نحوّل التعدّد الحضاري إلى قيم مدنية تعزّز العلاقات الإنسانية، وكيف نطلق طريق التصحيح الفكري في أوساط المسلمين في المهجر الذي ينشر الإيمان بآفاق المعرفة، وتقليص مساحة الجهل الذي يرتد على حقوقهم وعلى مستقبل أجيالهم في زمنهم الحرج؟