لمن أموال الشيف بوراك؟
الحقيقة التي يجب أن نعترف بها أن الطعام الذي يعدّه الشيف التركي، بوراك أوزدمير، على الهواء مباشرة أمام أنظار ملايين المشاهدين المتابعين له، متوسّط الجودة وليس مبهراً، ولو أنّه جميل الشكل وحسن التقديم، ويقدّمه صاحبه بأفكار غريبة. وتسهم بسمة الشيف الشاب وحركاته اللطيفة في ترويج أكلاته، إلى درجة أنك ما إن تطأ قدماك اسطنبول حتى تبحث عن مطعمه الشهير في واحد من أشهر ميادين المدينة. لكن بمجرّد أن تدخل إلى المكان تكتشف خدعات طفولية تستطيع من خلالها أن تحلّل شخصية هذا الطبّاخ الذي بدأ ظهوره في العام 2011، حين افتتح مطعماً في منطقة أكسراي، ثم توسّع عمله، ليصبح واحداً من المشاهير، خصوصاً أنّه يقوم بالطهي في أماكن غير تقليدية، مثل شيّه الكباب في صحراء دبي، وكذلك هو يخلط أصنافاً غير مستساغة بعضها فوق بعض مع ابتسامته اللزجة، لكنّه يجذبك، وتقع في الخدعة، وتقرّر زيارة مطعمه الشهير، لكي تكتشف في تحليلك الأول لشخصيته، أنّ هذا الشيف صاحب تفكير طفولي وتجاري معاً، فهو يضع مجسّماً كرتونياً ضخماً له في واجهة المطعم، وكل ما عليك أن تقف بجواره، ويلتقط لك آخرون عدة صور وأنت تبتسم ابتسامة بلهاء، وتصدّق نفسك أنك التقطت صوراً حقيقية مع الشيف الشهير. ونظرة واحدة إلى قائمة أسعار وجباته المقدّمة تجعلك تهرب مسافة عشرات الأمتار من المكان. أما الرائحة فهي غير محبّبة، وتشي لك بأنك قد وقعت في فخّ الدعاية والإعلان فعلاً.
الطعام التركي مستحدثٌ من أطباق أرمنية ويونانية وعربية، رغم أنّ الأتراك الأصليين يعتمدون على شيّ اللحوم، وتقدّم نصف نيئة غالباً، ويجيدون تقديم أطباقهم من خلال رصّ الأصناف وتزيين الموائد. أما الطعام نفسه فهو لا يثير شهيّتك، ولا يجعلك تنجذب لكي تكمل طبقك، مثلما تفعل مع الأطباق الشامية بوجه عام؛ فالمطبخ الشامي يتفوّق بلذّة الطعم وجمال المنظر، على العكس من مطابخ عالمية كثيرة، تقدّم وجبات تكاد تقلب محتويات جوفك من مذاقها وشكلها، لكنّهم يصمّمون على قيمتها الغذائية العالية، ولذلك أسعارها خيالية.
نعود إلى الواقعة التي يدّعي هذا الشيف الشاب وقوعها، فقد ظهر قبل أيام بدموعه المؤثرة شاكياً أنّ والده قد استولى على كلّ أمواله، وبكت قلوب الجماهير قبل عيونها تضامناً معه، وكالت الشتائم واللعنات فوق رأس أبيه المتحايل، ولم ينسَ الجمهور العريض أبواب الخير التي ساهم فيها الشيف بوراك، على الرغم مما أشيع عن اعتراض أبيه على قيامه بها، خصوصاً إبّان الزلزال في تركيا (وسورية) فبراير/ شباط الماضي، ما عزّز لدى الجمهور الاعتقاد بأنّ الأب لا يهمّه سوى المال، ضارباً بعرض الحائط المشاعر الإنسانية أو الطرق الشرعية للحصول عليه.
الحقيقة أنّ شعوراً داخلياً قد ساور قلّة من المتابعين وأنا منهم، وهو أنّ في الأمر مسرحية ساذجة. وغالباً هي حبكة مقصودة لجلب مزيد من الشهرة للشيف بوراك، خصوصاً مع ازدهار الموسم السياحي الحالي في إسطنبول، فخلال ساعات قليلة ظهر الشاب الوسيم للمرّة الثانية مبتسماً، ومعلناً عن بيع سيارته الفارهة، وافتتاحه مطعماً جديداً في قلب إسطنبول، فتعاظم شعور الريبة لديّ ولدى الآخرين عن حقيقة الأمر، فقد ذكّرني ما حدث بأنّه، في حقبة سينمائية كاسدة وبنوع من الدعاية والإعلان، كانت الواحدة من ممثلات الدرجة الثانية في السينما المصرية تعلن دخولها المستشفى لكي يجري تداول اسمها في الأخبار، وتكسب شهرة وتعاطفاً فتعود إلى الأضواء. والحقيقة أنّ إجراء استئصال للزائدة الدودية في مستشفى استثماري لا يستحقّ هذا الضجيج. وادّعاء المرض ظاهرة طبيعية وصحّية لدى المشاهير، إضافة إلى ادّعاء التعرّض للنصب والإفلاس. أما جديد الشيف بوراك فقد أنساه أنّ الشرع والقانون لا يحاسبان الأب حين "يسرق" مال ابنه، لأنّ الحديث الصحيح كان واضحاً، حين قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك".