ليث شبيلات: رسالتي الأخيرة إليكم
يحتلّ اسم ليث شبيلات، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى أول من أمس الأحد، عن ثمانية عقود، الكثير من ذاكرتنا وثقافتنا السياسية، نحن الأردنيين جيل مواليد عقد السبعينيات، وربما الجيل السابق لنا (جيل الستينيات) ولا نستطيع أن نتحدّث عن السياسة الأردنية، خلال تلك الفترة من دون أن يكون شبيلات حاضراً مهماً فيها.
لمع نجم أبي فرحان منذ بداية الثمانينيات مع خروجه من "الزاوية الصوفية"، والانتقال من مرحلة الخلوة الروحية وتصحيح المسار الشخصي إلى الاشتباك مع العمل العام، من بوابة النقابات، وقد نجح أن يكون أول نقيب إسلامي للمهندسين في العام 1982، بالرغم من عدم انتسابه، في أيّ لحظة من حياته، إلى جماعة الإخوان المسلمين، التيار الإسلامي الأكبر، ثم نجاحه في الوصول إلى المجلس الاستشاري 1984، والدخول بقوة إلى المشهد السياسي في العام 1989 بعد عودة الانتخابات النيابية.
كان شبيلات، منذ البداية، علامة فارقة في الحياة السياسية الأردنية، إذ كان من أوائل من تحدّثوا عن الفساد، ورفع سقف الخطاب السياسي، ولم يتراجع بالرغم من محاكماته المتكرّرة (أولها في قضية النفير الإسلامي، ثم تهم إطالة اللسان وغيرها)، ولم يردعه عن ذلك أن والده كان أحد السياسيين الأردنيين المقرّبين من القصر سابقاً، أو أنّه ابن عائلة ثرية تعدّ أرستقراطية، فمثّل لوناً مختلفاً من المعارضة من جوانب متعدّدة ومتنوعة.
تمثل مرحلة التسعينيات، بامتياز، المرحلة الذهبية لليث شبيلات. وقد شكّل مع الملك الحسين ثنائياً رهيباً في اللعبة السياسية الأردنية
صحيح أنّ شبيلات لم يتوقف عن العمل السياسي والمعارضة بعد رحيل الملك الحسين بن طلال في اللحظات الأخيرة من إسدال الستار على القرن الماضي، إلا أنّه كان يدخل على المشهد السياسي ثم يخرج بصورة متقطعة، يحاول في كل مرّة أن يرفع سقف خطاب المعارضة، وأن يدعم الحراك الشعبي، بخاصة في مرحلة الربيع العربي، حتى الأسابيع الأخيرة؛ فقد استمرّ في نهجه النقدي الحادّ تجاه النظام السياسي من جهة والمعارضة السياسية، بخاصة الإسلامية (الإخوان المسلمين) من جهةٍ أخرى. ولذلك تمثل مرحلة التسعينيات، بامتياز، المرحلة الذهبية لليث شبيلات. وقد شكّل مع الملك الحسين ثنائياً رهيباً في اللعبة السياسية الأردنية. .. الملك بوصفه زعيماً محبوباً يتمتع بشعبية كبيرة وبكاريزما هائلة، وفي جعبته رصيد تاريخي وسياسي عجيب من القيادة المحنّكة وحماية البلاد من الانهيار في أخطر المراحل التاريخية في العقود السابقة. وفي المقابل، ليث شبيلات المعارض الشرس الذي يملك كاريزما مشهودة، وهو الخطيب السياسي المفوّه، الذي يذكّرنا بمهارات المفكر السياسي الروماني شيشرون في الخطابة والتأثير السياسي، ما جعله قادراً بالفعل على أن يتحدّى هيبة الملك بهالةٍ سياسيةٍ محبوبةٍ من كثيرين.
كان شبيلات، رحمه الله، يقول إنّ كليهما (هو والحسين) أدركا أبعاد اللعبة وحدودها، فكان هو يتجاوز الجميع في خطاباته السياسية النارية ويكسر الخطوط الحمراء ويصبح المعارض رقم 1 في البلاد، تاركاً وراءه الأحزاب والقوى والنخب السياسية جميعاً، بينما يقود الملك سيارته الشخصية بنفسه، ويخرجه من السجن، ويصطحبه إلى والدته ليُحرج ليث نفسه، ويصدم المسؤولين والإعلام والرأي العام بل والعالم بما يمتلكه من دهاء سياسي وحسّ إنساني مرهف، ثم يعود شبيلات ليقدّم خطاباً سياسياً أعلى، وهكذا بقيت قواعد اللعبة حتى رحيل الحسين.
لم يكن ليث في الأردن تحدّياً للنظام فقط، بل أيضا للمعارضة السياسية، إذ طالما أحرجها بخطابه السياسي المتقدّم وجرأته وصراحته
لم يكن ليث تحدّياً للنظام فقط، بل أيضا للمعارضة السياسية، إذ طالما أحرجها بخطابه السياسي المتقدّم وجرأته وصراحته، وشكّل عقدة لكثير من السياسيين الذين لم يمتلكوا الجرأة التي لديه أو الكاريزما والشعبية الجارفة التي وصل إليها، ولا تعجز أن تدرك أنّ سياسيين كثيرين معارضين ممن حاولوا رفع السقف السياسي لاحقاً كانوا متأثرين بنموذج شبيلات، وإنْ كان ما يميزه عن أغلب من جاء بعده أنّ سقفه السياسي كان يمتلك عمقاً ثقافياً وفكرياً، ويستند إلى أعمدة من الكاريزما الشخصية والمصداقية التي جعلته مميزاً عن الجميع.
بالرغم من ذلك كلّه، لم ينجح ليث في تشكيل قوة سياسية أو حزب سياسي، فكان يتهمه خصومه بأنّه يفضل السولو (العزف المنفرد) على العمل الجماعي، مع أنّني أشهد أنّه حاول أكثر من مرّة تشكيل حزب سياسي، وكنتُ في مرحلة الشباب ضمن مجموعةٍ عملت معه على تشكيل هذا الحزب (كان يريده ليبرالياً من الناحية السياسية ومحافظاً من الناحية الاجتماعية)، لكنّ قناعته التي تعزّزت لديه مع مرور الوقت أنّ النخب السياسية والأحزاب الموجودة لا تستطيع أن تصل إلى السقف السياسي في خطابه. وهذا من حيث المبدأ صحيح، فخطاب الأحزاب وحساباتها الواقعية تختلف عن حسابات الأشخاص، حتى لو كانوا مثل ليث أقوى من مجموعة أحزاب مجتمعة.
كان شبيلات يصرّ على أنّ رسالته الرئيسية هي الابتعاد عن الإقليمية والعنصرية
برحيل شبيلات، يُطوى كتاب شخصية أردنية رمزية مهمة بإرث تاريخي وسياسي كبير، وأيّا كان الموقف منه ومن طرحه السياسي، وحتى الفكري، فإنّه لا يُنكر أنّه شكّل نموذجاً فريداً نوعياً نادراً، سيكون أيقونةً لجيل الشباب الذي سيتذكره مستقبلاً كما تُذكر شخصيات وطنية كبيرة أخرى، مثل وصفي التل وهزّاع المجالي ومحمد صبحي أبو غنيمة، بهذا المستوى من الذاكرة السياسية الوطنية.
قبل رحيله بأسابيع قليلة، وصل ليث إلى سنّ الثمانين، ووجّه رسالة عبر الفيديو إلى أصدقائه (كان قد أسّس بودكاست ضمّ مئات الأصدقاء يبعث إليهم الرسائل). وفي إحدى رسائله الأخيرة، تحدث عن عيد ميلاده الثمانين وذكرى اغتيال وصفي التل الـ52، وتحدّث في هذه الرسالة المؤثرة بصيغة النصائح الأخيرة له، مؤكّداً أنها القضايا التي يريد أن يؤكّد عليها قبل وفاته، بالرغم من أنه لم يكن يعاني من عارض صحي. وذكر، حرفياً، أنّ وصيته للأردنيين في ذكرى وصفي التل ألا يتم تقزيمه وتشويه مشروعه من دعاة الإقليمية، مذكّراً بما قاله عدنان أبو عودة (السياسي الأردني الراحل) من أنّه (أبو عودة) لم ير أكثر من وصفي التل وعياً وإدراكاً لخطورة المشروع الصهيوني، ولم يكن التل في أي يوم إقليمياً ضد الفلسطينيين، كما يحاول بعضٌ أن يصوّره من خلال اختراع الصراع بين الهويتين الأردنية والفلسطينية.
كان أبو فرحان يصرّ (في ذلك الحديث، وهنالك حديث آخر نشره بعده توضيحاً له) على أنّ رسالته الرئيسية هي الابتعاد عن الإقليمية والعنصرية، وكان في ذلك الحديث الجميل (قبيل وفاته) يستذكر ما وصفه بأنّه لطف الله به في حياته كلّها، وحتى وهو في غياهب السجون.. ربما شعور ما حرّكه ليبعث برسالته تلك التي بدت وكأنّها رسالة مودّع!