مؤتمر طنجة وسؤال الحُلم المَغَاربي
حَلَّت هذه السنة الذكرى 65 لمؤتمر طنجة الذي انعقد بين ممثِّلي بعض قادة الحركة الوطنية، من تونس والمغرب والجزائر أيام 27 و30 أبريل/ نيسان 1958، قصد التفكير في دعم حركة استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي، ووضع أسُس بناء مشروع المغرب الكبير. ارتبط السياق التاريخي للمؤتمر بمسألة تحرير الجزائر، والبحث المشترك في كيفيات مواجهة التحدّيات التي تواجهها البلدان المغاربية، بعد حصولها على استقلالها السياسي. وقد تداول ممثلو الأحزاب المشاركة في المؤتمر، حزب الاستقلال المغربي والحزب الحُرّ الدستوري التونسي، وبعض أعضاء جبهة التحرير الجزائرية، في الخطوات والوسائل التي تساعد في عمليات تجاوُز التَّرِكَة الاستعمارية، وتُمَهِّد الطريق لبناء وحدة شمال أفريقيا وبناء الحلم المغاربي. وأجمعوا، في البيان الصادر عن المؤتمر، على أن معركة الجزائر المتواصلة من أجل الاستقلال تُعَدّ معركة استكمالٍ لتحرير المغرب الكبير.
عندما نتوقف اليوم أمام بعض محاضر مؤتمر طنجة، ونتابع المداولات بين المؤتمرين، نُدْرِك أهمية الروح السياسية التحرّرية والوحدوية التي وَجَّهَته. كما نتبيّن الأفق السياسي الجامع بين قادة أحزاب الحركات الوطنية المغاربية، ونُعاين جوانب أخرى من الأفق السياسي المذكور، في أعمال القادة الوطنيين في المنفى، وخصوصا أعضاء "لجنة تحرير المغرب العربي في القاهرة"، حيث عكست مداولات المؤتمر بعض مبادئ اللجنة المذكورة. كما يمكن أن نشير، في السياق نفسه، إلى المشروع الذي حمله اتحاد كتّاب المغرب سنة تأسيسه (1959)، فقد عَمِل مؤسّسو الاتحاد على أن يكون الاتحاد المُزْمَع تأسيسه، اتحاداً لكتاب المغرب الكبير. وحرص في مؤتمره الثاني على حضور من يمثل كتّاب تونس والجزائر وليبيا.. ونستطيع القول إن روح التحرّر والوحدة كانت تُشكِّل الأفق الجامع لتطلعّات النخب السياسية نهاية خمسينيات القرن الماضي.. رغم عدم نجاح مشروع إنشاء اتحادٍ جامعٍ لكتّاب بلدان المغرب الكبير، وجمود مؤسّسات اتحاد المغرب العربي.
نجد أنفسنا اليوم بعد مرور أزْيَد من ستة عقود على مواقف المؤتمر المذكور، في مأزق سياسي يتمثَّل في شَلَل مؤسسة اتحاد المغرب العربي، التي أَجْمع قادة البلدان المغاربية على إنشائه في مراكش سنة 1989، وجرى اعتباره تتميماً وتزكية للخيارات السياسية التي تبلورت في مؤتمر طنجة. ويكشف استمرار تجميد الاتحاد ومؤسّساته، عجز النخب السياسية في البلدان المغاربية عن مواجهة التحدّيات التي تواجه مجتمعاتهم، حيث تغيب جسور التواصل داخل فضاءات الإقليم المغاربي الكبير، ونجد صعوبةً كبيرةً في فهم العوائق التي حالت ولا تزال تَحُول دون استكمال مسلسل بناء مشروع المغرب العربي الكبير، وقد مَرَّ اليوم على خطواته الأولى، أَزْيَد من ثلاثة عقود.
روح التحرّر والوحدة كانت تُشكِّل الأفق الجامع لتطلعّات النخب السياسية نهاية خمسينيات القرن الماضي
لم تنطفئ شعلة الأفق المغاربي، وقد استمر الحُلم بمغرب كبير حاضراً رغم المسافة الزمنية التي ازدادت اتساعاً منذ سنة إعلان الحُلم 1958، ورغم عطالة مؤسّسة الاتحاد. نتبيّن ذلك في المبادرات التي تُواصل مؤسّسات المجتمع المدني المغاربية القيام بها، لتذكير شعوب المغرب العربي بأهمية الحُلم المغاربي. وقد بادرت بمناسبة ذكرى مؤتمر طنجة أربع منظمات مغاربية، بتنظيم ندوة يوم 29 الشهر الماضي (أبريل/ نيسان)، احتفاءً بمرور أزيد من ستة عقود على مؤتمر المغرب العربي بعنوان: أي مستقبل للحُلم المغاربي؟ ساهم فيها مثقّفون عديدون من مختلف البلدان المغاربية، من أجل مواجهة أسئلة الاتحاد ومآزقه، ومواجهة محدودية العمل العربي المشترك، فقد أصبح الواقع السياسي لبلدان الاتحاد يدعو إلى طرح بعض الأسئلة بشأن مصير الاتحاد ومؤسّساته.
ربطنا بالأمس القريب جمود الاتحاد ومؤسّساته بموضوع الصحراء، ويجب أن نضيف إلى ذلك اليوم مختلف التداعيات المُترتِّبة عن زمن الانفجارات العربية سنة 2011، حيث عادت القَبَلِية والطائفية إلى ليبيا، وعادت معها هواجس التقسيم وأسئلة الاختراق الإقليمي والدولي للجغرافيا العربية الليبية. وحيث أصبحت تطفو على سطح المشهد السياسي في تونس عواصف وتنشأ خلافات، مخترقةً أسس الطور الانتقالي وتوافقاته وهشاشته، وعجز النخب عن تجاوز مواقفها وأحكامها على الثورة وما تلاها. كما ترتفع في الآونة الأخيرة حِدَّة الأصوات والمواقف بشأن موضوع الصحراء، في كل من المغرب والجزائر. الأمر الذي ساهم في مزيدٍ من تَعَثُّر وتباطؤ عملية رفع حالة الجمود على الاتحاد. وإذا كانت مشكلات الثورات العربية قد ضاعفت مآزق كل من ليبيا وتونس، فإن مشروع الإصلاح الديمقراطي في كل من المغرب والجزائر وموريتانيا لا يزال متعثراً.
ضاعفت مشكلات الثورات العربية مآزق ليبيا وتونس، ومشروع الإصلاح الديمقراطي في كل من المغرب والجزائر وموريتانيا لا يزال متعثراً
ارتبط تشكُّل مأزق الاتحاد في منتصف سبعينيات القرن الماضي بجملة من المعطيات السياسية المحدّدة إذ ذاك لنمط العلاقات الدولية. وقد حصلت بعد ذلك تطوّرات عديدة في المجال الإقليمي العربي وفي المجال المغاربي، كما حصلت تحوّلات دولية في المجال المتوسطي وفي العلاقات الدولية على وجه العموم. وإذا كان هناك إجماع على أن الاتحاد يُشكِّل فضاء للعمل العربي الإقليمي، الحامل كل مُقوِّمات النجاح بحكم مُكوِّناته الذاتية، وبحكم انفتاحه على الفضاء العربي والمتوسطي والأوروبي، وكذا بحكم انخراطه في مجال بناء الإصلاحات السياسية الرامية إلى تَمَلُّك مُقوِّمات التحديث والتطوير وتعزيز الحريات، رغم كل أشكال التردّد الحاصل في بعض أقطاره، فإن تعطيل مؤسّسات الاتحاد يساهم في تأجيل مشروع النهوض بشعوب المنطقة.
مرور ما يقرب من أربعة عقود على التصوّرات والمواقف والحروب التي اشتعلت، والأزمات التي استفحلت بسبب غياب الحوار، يستحقّ القيام بجهود سياسية استثنائية، لوضع حدٍّ لقضية استنزفت شعوباً وخيرات، وعطّلت إمكانية تطوير مؤسسات وهيئات، وراكمت أحقاداً ساهمت في تركيب كثير من الأوهام. وقد لا نجد أي حرج في الحديث عن ضرورة بلورة لغة جديدة في النظر إلى الموضوع، سواء في الجزائر أو في المغرب أو وسط النخب الحارسة لسكّان مخيمات تندوف ... وضمن هذا الأفق، حَرِص المشاركون في الندوة على توجيه نداءٍ إلى صُنَّاع القرار في البلدان المغاربية، من أجل إطلاق حِوارٍ يساهم في إعادة الاعتبار للفكرة المغاربية وإحياء المشروع المغاربي، وتضمَّن النداء دعوة إلى بلورة رؤية جديدة تحقّق أحلام الوطنيين ومؤسّسي الدولة الحديثة في تأسيس المغرب الكبير، ومن دون إغفال مختلف التحدّيات الإقليمية والدولية التي تحيط بالفضاء المغاربي. وقد أعلنوا، في نهاية المؤتمر، تأسيس "منتدى طنجة المغاربي" قصد تفعيل المبادئ الكبرى لمؤتمر طنجة وتطويرها.