ماكرون في بكين ... اختراق أم احتراق دبلوماسي؟
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في موقفٍ لا يُحسَد عليه، بعد الفشل الذريع في تحقيق اختراق دبلوماسي على مسرح الأحداث العالمي، يمكن تسويقه بغية التخفيف من الأزمات المتلاحقة داخل فرنسا. وأحيانا، يحدث أن تنقلب تلك المساعي إلى النقيض، باستحداث أزماتٍ جديدة، حوّلت الرئيس إلى رجل إطفاء يجري جاهدا وراء تطويق ما صنعت يداه. وتبقى زيارته الصين، مطلع شهر أبريل/ نيسان الجاري، مثالا حيا عن ذلك، بعدما عاد خاوي الوفاض من بكين، سوى من توتّر جديد مع حلفائه التقليديين، بسبب التصريحات "المهينة" للأوروبيين.
حرص الزعيم الفرنسي على إضفاء طابع دولي على الزيارة الثالثة للصين، منذ دخوله قصر الإليزيه، باصطحابه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين. فضلا عن رغبته في قطع الطريق أمام أي محاولةٍ للعب على الانقسامات الأوروبية، بإظهار أن أوروبا تتكلّم بصوت واحد. زيادة على ذلك، يحضر الاتحاد من باب البحث عن الموازنة بين الطرفين، فباريس قطعا غير قادرة على ندّية بكين، ما يستدعي مواجهة الثقل الصيني بثقل الاتحاد الأوروبي، بحثا عن تأثير أقوى على الموقف الصيني تجاه روسيا.
سعى ماكرون في هذه الزيارة إلى تقديم نفسه متحدّثا باسم الأوروبيين مع بكين، بإظهار أن الاتحاد الأوروبي لا يُجاري أطروحة واشنطن القاضية بالفصل الاقتصادي مع الصين. فالموقف الأميركي الذي يضع الصين وروسيا في سلة واحدة غير مقنع لباريس؛ لأنه لا يخدم مساعيها لتشجيع بكين على إيقاف دعمها موسكو، بل يدفع بهما نحو مزيد من التقارب والانسجام. علاوة على أنها ترى التنين الآسيوي شريكا يمكن التعاون معه، وحتى منافسا تجاريا، عكس المنظور الأميركي الذي يعتبره عدوّا ومصدرا للتهديد.
على هذا الأساس، بسط الرجل وجهة نظره بوضوح أمام الصحافيين، بشكل أثار حفيظة جهات عديدة داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه. فتحدث عن "الاستقلال الاستراتيجي" و"الطريق الثالث"، معتبرا أن الخطر الأكبر الذي يواجه أوروبا بقاؤها "عالقة في أزماتٍ ليست من أزماتها، ما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية". وأضاف بصيغة جريئة قلما تقال أمام الأضواء، "نحن -الأوروبيين- بحاجة إلى أن نستيقظ. أولويتنا ليست التكيّف مع أجندة الآخرين في جميع مناطق العالم".
باريس قطعا غير قادرة على ندّية بكين، ما يستدعي مواجهة الثقل الصيني بثقل الاتحاد الأوروبي، بحثا عن تأثير أقوى على الموقف الصيني تجاه روسيا
تعرّض ماكرون، بسبب هذه الآراء، لوابل من النقد من حلفائه الأوروبيين، ممن اعتبروا هذا الكلام "هدية مجاملة" منه للرئيس الصيني شي جين بينغ من دون أن يقبض أي مقابل، فقد حوّل الرئيس الزيارة "إلى انقلاب في العلاقات العامة لصالح شي، وإلى كارثةٍ في السياسة الخارجية بالنسبة إلى أوروبا". وبلغ الأمر بأصواتٍ في النادي الأوروبي حد اتهامه بـ "العمى الجيوسياسي"، مستنكرين أي حديثٍ للرجل باسم أوروبا فـ "ماكرون يتحدّث نيابة عن ماكرون".
تقريع أوروبي علني لماكرون لا يعني الرفض المطلق لكلامه، بقدر ما يتحفّظ فقط على "التوقيت الخاطئ"، فأوروبا الآن في غنىً عن أي توتر مع واشنطن، لدورها أكبر داعم لأوكرانيا في مواجهة القوات الروسية. صحيحٌ أن أوروبيين كثيرين مقتنعون بالحاجة الماسّة إلى بلورة "استراتيجية أوروبية مستقلة"، لكنهم على خلافٍ مع الرجل بشأن توقيف وسياق الإعلان عنها. وما توافدُ قادة أوروبيين فرادى (أولاف شولتز، شارل ميشيل، بيدرو سانشير) على الصين، خلال الشهور الأخيرة، سوى دليل على رغبة أوروبية عامرة لتجاوز الخلافات مع الصين.
طموحٌ لا تخطئه العين، يعمل ماكرون جاهدا على أن يصير حقيقة، مستثمرا في سبيل ذلك إرث فرنسا في الاختلاف بشأن المواقف من الأحداث الدولية، فقد سبق للرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول أن خالف الولايات المتحدة، حين أبدى استعداده للتقارب مع الاتحاد السوفييتي، بعد الحرب العالمية الثانية. وتكرّر الأمر ذاته مع الرئيس جاك شيراك الذي عارض وبشدة مسايرة واشنطن ولندن في عدوانهما على العراق. بذلك تكون محاولة ماكرون مجرّد استعادة لفكرة الطريق الثالث؛ التقليدي الفرنسي الأصيل، زمن الشدائد والأزمات في العالم.
فرنسا ديغول وشيراك غير فرنسا ماكرون، فالأزمات الداخلية لا تهدأ فيها إلا لتشتعل من جديد بقوة أكبر
على إدارة ماكرون أن تدرك، وهي تحيي هذه الدبلوماسية، أن فرنسا ديغول وشيراك غير فرنسا ماكرون، فالأزمات الداخلية لا تهدأ فيها إلا لتشتعل من جديد بقوة أكبر. والأمر بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي فقد قدرته الصناعية والتجارية، ما انعكس بوضوح على قوته التفاوضية، حتى أضحى في موقع تبعية واضحة لواشنطن. لذلك كله، تبقى دعوة الرئيس الأوروبيين إلى الخروج من "منطق الكتلة في مقابل الكتلة"، بتأسيس قطب ثالث مجرّد حلم، كما جاء في خطابه عن "عقيدة الأمن الاقتصادي" في لاهاي، في معرض توضيح ما رافق زيارته الصين من سوء فهم.
يدفع البحث عن اختراقات دبلوماسية أملا في استعادة هيبة الدولة الفرنسية التي فقدت الكثير منها؛ داخليا بفعل توالي الاحتجاجات، وخارجيا بتراجع النفوذ في أفريقيا، الرئيس ماكرون إلى الوقوع في أخطاء، ترتقي في أعين حلفائه إلى خطايا، على غرار جلوسه حول طاولة عملاقة في بكين، واستجدائه الرئيس الصيني بأسلوبٍ غير مألوف في الأعراف الدبلوماسية أمام وسائل الإعلام من أجل وقف الحرب ... ما يزيده تأزما وارتباكا وعزلة في داخل أوروبا وخارجها.
يقع ماكرون في أخطاء، ترتقي في أعين حلفائه إلى خطايا، على غرار جلوسه حول طاولة عملاقة في بكين واستجدائه الرئيس الصيني
يوشك الرئيس الفرنسي على تكرار سيناريو موسكو في بكين، فاللهفة وراء زعامة أوروبا، بعد انسحاب المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، أنعشت الدبلوماسية الرئاسية، ما أوقع الرجل في سقطاتٍ عديدة في كبرى العواصم؛ بدءا من موسكو ثم واشنطن وصولا إلى بكين، من دون إغفال متاعبه في عدة عواصم أفريقية، ما جعل عقلاء فرنسا يشعرون بخيبة أمل كبيرة من الفرص التاريخية التي تفوتها بلادهم للعب بالورقة الديغولية.
يدرك الأوروبيون جيدا أن التنافس الصيني الأميركي يضع القارّة العجوز في مهبّ الريح، بقدر إدراكهم محدودية أفق ماكرون في سعيه وراء اجتراح معادلة جديدة، من شأنها التخفيف من تداعيات الصراع على الاتحاد الأوروبي. وذلك لقناعتهم بأن المهمة ليست سهلة على الإطلاق، لوجود عائق الطرف الثالث؛ فبروكسل ترهن التقارب الصيني الأوروبي بالمسافة بين بكين وموسكو، فيما تُعلق الصين الأمر على وقف التماهي الأوروبي مع مواقف الإدارة الأميركية الموجّه ضدّها.
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.