25 اغسطس 2024
ماهر حميد يريد حريّة
أيام كان الحراك الثوري في سورية يأخذ بتلابيب العقل، كان ثمّة ثورة اخترعت الأغاني والهتافات، والمظاهراتُ أغرقت الشوارع بالبشر، وكانت العائلة تخرج، كلها، في المظاهرة، وتأخذ معها بطيخةً "قاوونة"، وجَبَسة، وسجادةً عتيقة للجلوس، وحليباً للولد، وحفوضات.
وكانت صفحات "فيسبوك"، على الرغم من الإبلاغ والحظر، شغالةً على قدم وساق، وتأتي أنت إلى منشور ثورجي من نوع (أيا سوريتي الحبيبة التي هَبَّتْ من ظلام الدياجير)، فتعلق بعبارة: آآآآه... فيطلع لك واحدٌ من المتشبثين بالأرض، وهو يظن نفسه توفيق زَيَّاد أو معين بسيسو، ليقول لك، من دون سلام أو كلام:
- أنتم، ما علاقتكم بالثورة، يا حيوانات؟ خليكم جالسين تحت مُكَيِّفاتكم.
فتهبّ أنت، الحريص أن يكون لك علاقة بالثورة، لإطفاء المكيّف، على الرغم من أن الحرّ يذيب الأجسام كالقصدير، وتعود إلى اللابتوب، ماشياً على رؤوس أصابع قدميك، وتضع (لايكاً) على منشورٍ كتبه ثورجي آخر، فيرد عليك، وكأنه يكمل حديث زميله:
- ماذا جاءنا منكم غير اللايكات، يا ثوار "فيسبوك" الجالسين في بلاد الخليج؟
وتستمر سورية التي كان حافظ الأسد قد أكسبها اسم "مملكة الصمت والخوف" تصرخ، وتُسْمِعُ هتافَها للعالم: سورية بدها حرية. ورجال المخابرات يجمعون الشبان في الساحات، ويدوسون عليهم ويسألونهم: بدكم حرية؟... ثم يسألونهم، كما لو أنهم يلقنونهم درساً: هذه الرفسة من شان شو؟... وقبل أن يدوس الشبّيح المحترم الرفيق أبو حيدر على جسم آخر فتى ملقىً على ظهره في "ساحة تكريم الحرية"، تبادر الفضائيات إلى القول إن القتلى الذين سقطوا في مدينة دير الزور، على يد قوات النظام، جميعهم من السُّنَّة! ولكي يثبتوا صحة هذا الكلام، يأتون بالشاهد العَيَاني أبو فرات الديري. ومع أن أبا فرات الديري رجلٌ موثوق، وكلامه أقوى من الكمبيالات المصرفية، إلا أنه، وزيادةً في التوكيد، يحلف على أنهم، جميعاً، من السنَّة. وأما أنا، بوصفي رجلاً من أهالي دير الزور، فقد استغربتُ ذلك، لأنني لم أسمع في أي يوم أن أهل الدير من السُّنَّة، بل أعرف أنهم ديريون، وأنهم، جميعاً يأكلون ثرود البامياء. لذلك، قلت لنفسي ربما أن جماعة المخابرات كانوا يمسكون الديري، ويشحطونه إلى المعتقل، ويضربونه بالكرباج، أو بالكابل الرباعي، حتى يقرّ ويعترف بأنه سنّي، وليس ديري، فإن لم يعترف يميتونه تحت التعذيب.
ويظن الناس الطيبون أمثالي أن القصة انتهت على خير. ولكن، فجأة، يطلع الدكتور القاعد في باريس على التلفزيون، وهو يُزبد ويُرعد، نكايةً بمَنْ يُرعد أولاً ثم يُزبد؛ قائلاً إن كل متظاهر هو مشروع شهيد، ويظل يردّدها حتى يخرج رجلٌ من عامة الناس، ويصيح: أنا إنسان ماني شهيد!
وبناء على هذه المعطيات، قرّرنا، نحن السوريين والديريين، إنشاء جيشٍ، بل جيوش، لحماية المتظاهرين السنة، فصار عندنا جيشان، نصيْري لا عمل له غير قتل السنّة، وسني حبّاب لا يريد أن يقتل أحداً، بل يتفرغ لحماية أهل السنة، ولكن بعض المصلين في أحد مساجد حمص لم يعجبهم الإمام، فغادروا تاركين الجيش السني الحبّاب، يحمي بيوت السنة الفارغة، وقالوا لهم: صلوا وحدكم، نحن سنصلي قضاءً في وقت لاحق، فقال لهم الآخرون: تعالوا هنا، أنتم دينكم ليس صحيحاً، ويجب أن تُستتابوا، وإلا ستُقتلون شرعاً.
واحتدمت الأمور، وتطورت، واكتشفنا أنه كان لدينا، من دون أن نعرف، عدة أنواع من السنة، نوع يجب جَلْدُه، ونوعٌ يجب قتله، ونوعٌ يجب أن يُسْتَتَاب ثم يُقتل، ونوعٌ يجب أن يقتل من دون أن يُستتاب، وأصبح القتل واجباً وطنياً وشرعياً. وبعد أن كان بعضُنا يسمي قتلاه شهداء، وبعضنا الآخر يقول "تم الدعس"، صار الكل يريد أن يدعس.
فادعس، جزاك الله عنا خيراً، وبالنسبة لسورية اعتبرها زالت، وأرح ضميرك.
وكانت صفحات "فيسبوك"، على الرغم من الإبلاغ والحظر، شغالةً على قدم وساق، وتأتي أنت إلى منشور ثورجي من نوع (أيا سوريتي الحبيبة التي هَبَّتْ من ظلام الدياجير)، فتعلق بعبارة: آآآآه... فيطلع لك واحدٌ من المتشبثين بالأرض، وهو يظن نفسه توفيق زَيَّاد أو معين بسيسو، ليقول لك، من دون سلام أو كلام:
- أنتم، ما علاقتكم بالثورة، يا حيوانات؟ خليكم جالسين تحت مُكَيِّفاتكم.
فتهبّ أنت، الحريص أن يكون لك علاقة بالثورة، لإطفاء المكيّف، على الرغم من أن الحرّ يذيب الأجسام كالقصدير، وتعود إلى اللابتوب، ماشياً على رؤوس أصابع قدميك، وتضع (لايكاً) على منشورٍ كتبه ثورجي آخر، فيرد عليك، وكأنه يكمل حديث زميله:
- ماذا جاءنا منكم غير اللايكات، يا ثوار "فيسبوك" الجالسين في بلاد الخليج؟
وتستمر سورية التي كان حافظ الأسد قد أكسبها اسم "مملكة الصمت والخوف" تصرخ، وتُسْمِعُ هتافَها للعالم: سورية بدها حرية. ورجال المخابرات يجمعون الشبان في الساحات، ويدوسون عليهم ويسألونهم: بدكم حرية؟... ثم يسألونهم، كما لو أنهم يلقنونهم درساً: هذه الرفسة من شان شو؟... وقبل أن يدوس الشبّيح المحترم الرفيق أبو حيدر على جسم آخر فتى ملقىً على ظهره في "ساحة تكريم الحرية"، تبادر الفضائيات إلى القول إن القتلى الذين سقطوا في مدينة دير الزور، على يد قوات النظام، جميعهم من السُّنَّة! ولكي يثبتوا صحة هذا الكلام، يأتون بالشاهد العَيَاني أبو فرات الديري. ومع أن أبا فرات الديري رجلٌ موثوق، وكلامه أقوى من الكمبيالات المصرفية، إلا أنه، وزيادةً في التوكيد، يحلف على أنهم، جميعاً، من السنَّة. وأما أنا، بوصفي رجلاً من أهالي دير الزور، فقد استغربتُ ذلك، لأنني لم أسمع في أي يوم أن أهل الدير من السُّنَّة، بل أعرف أنهم ديريون، وأنهم، جميعاً يأكلون ثرود البامياء. لذلك، قلت لنفسي ربما أن جماعة المخابرات كانوا يمسكون الديري، ويشحطونه إلى المعتقل، ويضربونه بالكرباج، أو بالكابل الرباعي، حتى يقرّ ويعترف بأنه سنّي، وليس ديري، فإن لم يعترف يميتونه تحت التعذيب.
ويظن الناس الطيبون أمثالي أن القصة انتهت على خير. ولكن، فجأة، يطلع الدكتور القاعد في باريس على التلفزيون، وهو يُزبد ويُرعد، نكايةً بمَنْ يُرعد أولاً ثم يُزبد؛ قائلاً إن كل متظاهر هو مشروع شهيد، ويظل يردّدها حتى يخرج رجلٌ من عامة الناس، ويصيح: أنا إنسان ماني شهيد!
وبناء على هذه المعطيات، قرّرنا، نحن السوريين والديريين، إنشاء جيشٍ، بل جيوش، لحماية المتظاهرين السنة، فصار عندنا جيشان، نصيْري لا عمل له غير قتل السنّة، وسني حبّاب لا يريد أن يقتل أحداً، بل يتفرغ لحماية أهل السنة، ولكن بعض المصلين في أحد مساجد حمص لم يعجبهم الإمام، فغادروا تاركين الجيش السني الحبّاب، يحمي بيوت السنة الفارغة، وقالوا لهم: صلوا وحدكم، نحن سنصلي قضاءً في وقت لاحق، فقال لهم الآخرون: تعالوا هنا، أنتم دينكم ليس صحيحاً، ويجب أن تُستتابوا، وإلا ستُقتلون شرعاً.
واحتدمت الأمور، وتطورت، واكتشفنا أنه كان لدينا، من دون أن نعرف، عدة أنواع من السنة، نوع يجب جَلْدُه، ونوعٌ يجب قتله، ونوعٌ يجب أن يُسْتَتَاب ثم يُقتل، ونوعٌ يجب أن يقتل من دون أن يُستتاب، وأصبح القتل واجباً وطنياً وشرعياً. وبعد أن كان بعضُنا يسمي قتلاه شهداء، وبعضنا الآخر يقول "تم الدعس"، صار الكل يريد أن يدعس.
فادعس، جزاك الله عنا خيراً، وبالنسبة لسورية اعتبرها زالت، وأرح ضميرك.