ما زالت الحرب في السودان مُستمرّة
حذّرت جهاتٌ دوليةٌ عدة، في شهر يونيو/ حزيران 2023، وبعد نحو شهرَين من اندلاع حرب السودان، من أنّ القتال في البلاد قد يتحوّل "أسلوبَ حياةٍ"، وهو ما يبدو حقيقياً، بعد مرور 15 شهراً من الحرب.
يشكو قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، من تجاهل العالم جرائمَ قوّات الدعم السريع. وهو يقصد الشكوى من عدم دعم العالم الجيش السوداني في حربه هذه ضدّ حليفه السابق محمد حمدان دقلو. لكنّ الحقيقة أنّ العالم عجز عن وقف الحرب رغم كلّ إداناته. وجميع محاولاته للضغط على طرفَي الحرب لم تثمر، وتملَّص الطرفان من اتخاذ أيّ خطوةٍ عمليةٍ جادّةٍ لوقف العمليات العسكرية، في رهانٍ على القدرة في الحسم عبر البندقية، وهو ما يبدو غير قريبٍ حتّى هذه اللحظة، ويدفع ثمنَه عشراتُ ملايين المواطنين.
أصبحت الإدانات الدولية مُتكرّرةً ورتيبة لم تتغيّر منذ أكثر من عام. ترصد (الإدانات) انهيار الدولة وتفكّكها شيئاً فشيئاً، وتُحذِّر من أثر ذلك في الإقليم. تُنذِر بالمجاعة منذ كانت وشيكة حتّى مات الناس، وما زالت تُنذِر بجوع أكثر من 25 مليون مواطن. رصدت التجييش وانتشار السلاح وعمليات "التمليش" (تأسيس المليشيات) المستمرّة مع تفشّي خطاب الكراهية، والتنبيه إلى الأثر المُدمِّر لذلك. ومع هذه التحذيرات، تتواصل بيانات الإدانة، ودعوة الأطراف إلى وقف إطلاق النار، وبدء حوار موسّع لإنهاء الأزمة، مع بعض عقوبات توصف بـ "الذكية" تطارد قادة هذا الطرف أو ذاك. ومحصّلة ذلك كلّه استمرار القتال.
تتواصل داخل السودان العمليات العسكرية بالرتابة ذاتها، فكأنّما أضحت الحرب في ذاتها واقعاً لا يسعى أحدٌ إلى الفكاك منه؛ قصف مدفعي تطلقه قوّات الدعم السريع على مناطق سيطرة الجيش فيسقط عشرات المدنيين؛ هجوم "الدعم السريع" على إحدى القرى ونهبها؛ صدّ هجومها على إحدى المدن... هكذا تستمرّ دائرة الأخبار المُكرَّرة، ولا شيء آخر يحدث.
تتحلّل الدولة السودانية أمام الأنظار، ويزحف الموت خلف عشرات الملايين من المواطنين في نزوحهم في داخل السودان أو في خارجه.
يدعو العالم إلى لقاءٍ بين قائد الجيش وقائد "الدعم السريع"، فيرفض هذا ثمّ يعتذر ذاك. تتّجه الوفود إلى جنيف، فيحضر طرفٌ ويغيب الآخر. يسافر المفاوضون إلى جدّة، فينسحب طرفٌ ويتهرّب من التنفيذ طرف. وهكذا تستمر دوامة العبث، وبينما يواجه نصف سكان السودان خطر المجاعة، ويعيش أكثر من عشرة ملايين منهم نازحين، يصف قائد الجيش هذا كلّه بـ"الزوبعة"، بينما يتواصل اختفاء قائد "الدعم السريع"، الأمر الذي تثور الشكوك بشأن صحّته.
الذين استيقظوا صباح السبت 15 إبريل/ نيسان 2023 ليجدوا الحرب فوق رؤوسهم، ما زالوا يعيشون اليوم ذاته بلا توقّف منذ أكثر من عام. كلّ شيء يتكرَّر؛ القتال؛ الموت؛ الانتهاكات؛ الإدانات؛ الدعوات إلى وقف الحرب؛ الجوع. كلّ شيء يتكرَّر، والحرب أصبحت أسلوبَ حياة.
بعد 15 شهراً يعجز الطرفان عن الانتصار العسكري، ولا يمتلكان الإرادة للحلّ السلمي، ويتخبّط العالم، الذي يعاني مشكلات أكبر، في طريق إيجاد حلّ. وحتّى ذلك الوقت، ستستمرّ حرب السودان حتّى تَستنزِف أطرافَها، وتُجبرهم على الرضوخ للحلول السلمية. في وقت ستكون فيه الحلول السلمية الممكنة كلّها شديدة السوء، لكن ستكون وحدها المُتاحة. وهو ثمنٌ عادلٌ للعجز عن منع اشتعال الحرب، ثمّ التباطؤ في إيقافها. ففي الأسابيع الأولى، لمّا كان قائدا الجيش و"الدعم السريع" يتوعّد أحدهما الآخر في اتصالات هاتفية بالقنوات الإخبارية، كانت الحرب ما زالت اشتباكاتٍ عنيفةً في أجزاء من العاصمة الخرطوم. ما كان متاحاً في ذلك الوقت، ورفَضَه الطرفان مدفوعين بوهم الانتصار العسكري القريب، لم يعد مُمكناً اليوم. والحرب التي تأكل أجزاءَ واسعةً من السودان لم يعد قرارها عند قيادتَين عسكريَّتَين. لذلك ستتواصل برتابتها بلا أمل قريب في تغيّر الأحوال.