مدخل إلى فلسفة فرانز فانون
تأخّرت قراءتي كتاب فرانز فانون "معذّبو الأرض" الذي يشمل جزءًا من مذكّراته، لكنها كانت رحلة مثيرة جداً. كان عليّ أن أفرز فانون مفكّرا فرنسيا، انضم إلى عالم الجنوب، وكيف كان يفترق، في لحظاته الأخيرة، مع التيار الوجودي اليساري الفرنسي، رغم أنه كان ابن الماركسية العلمية، أي الإلحاد المطلق، غير أن ضميرَه المشتعل بقوة ظلّ يصعّد في قطيعته مع باريس، حتى أصبح وكأن فرانز فانون لا علاقة له بفرنسا، إلا من خلال روحه المتضامنة مع جماجم ضحاياها في المتحف الفرنسي، من الشعب الجزائري ومن مجاهدي جبهة التحرير الوطني.
تزامنت رحلة فانون ذلك الحين مع العهد الشيوعي العالمي، حيث كانت القوى اليسارية تحت دعم الراية الحمراء المركزية، فهي الجسم المادي القوي الذي كان يزعم أنهُ محرّر الشعوب، قبل أن تنكشف سوءاته الذاتية، في مشاريع الروس الإمبريالية، التي تُمثّل نسخة أخرى من جحيم الاستقواء على الشعوب المتعدّدة، بل على قيم الحرية والكرامة الذاتية لإنسان المعسكر السوفييتي، في داخل دوله أو خارجها في حلف العالم الاشتراكي. ويجب هنا أن نعرف واقع هذه الأفكار والضخ الكبير من الإعلام ومن الثقافة، التي كانت تؤثر في أميركا ذاتها وفي أوروبا، فضلاَ عن أفريقيا التي كانت قبلة فانون ومسرح نضاله الأخير.
ولذلك، كان فانون يراعي هذه الوحدة الفكرية، والتي كانت، حين وفاته، تمثل القوة الثقافية الممانعة أمام طغيان الإمبريالية الغربية، وكان البعد الأخلاقي للوقوف على الفكرة الأخرى يضغط على فانون، لكنه كان يتوارى عن جذورِه الفلسفية العميقة، جذور البعث الثالث لتفسير عقيدة المساواة والحرية والكرامة، لكنه ظلّ يحترم هذه الروح في الشعب الجزائري وفي مسلمي قارّة أفريقيا. وقد اعتمدت فلسفة فانون، في تقديري، على مسارات متعدّدة، يمكن أن نجملها في مبادئ رئيسية لفلسفته:
يُسند فرانز فانون فلسفته بوقائع وأحداث، باستحالة اعتدال الغرب ووقفه لسياسته المتطرّفة ضد الإنسانية
الأول: يقدّم فانون أرشيفاً مهماً ودقيقاً لا تزال أهميته حاضرة في واقعنا اليوم، يثبت فيه من خلال موقعه طبيبا نفسيا، شارك ضمن الفريق الفرنسي الحكومي المنتدب من باريس، أدلة مهمة على أن وحشية الإبادة التي مارستها باريس كانت تعتمد على تصنيف فلسفي و"علمي" مزعوم، بتخلف شعوب أفريقيا عموما والشعب الجزائري خصوصاً. وأضرب مثلاً واحداً فقط لكثرة ما يعرفه الناس من دلائل لهذا التوحّش، غير أننا نعتني هنا بالجذور الفلسفية والأكاديمية للإبادة الفرنسية للجزائر، حيث ينشر فانون دراسة قُدّمت لمؤتمر علمي للطب النفسي الفرنسي، تعرض للمؤتمرين اكتشافها أن اللحاء الدماغي للشعب الجزائري يختلف عن الإنسان الطبيعي (الغربي)، وهو ما يؤكّد تخلفه! وبالتالي، تشريع قتله وإبادته، وهنا نحن نتحدّث عن 1950 وما بعدها، أي أنها أفكار العالم الغربي الحديث بعد عهد التنوير، وحروب ثوراته على الجنوب العالمي.
الثاني: البيان العالمي الجديد لإعلان أخلاقية العنف الثوري، وأحسب أن فانون لم يُسبَق إلى هذا التشريع التنظيري القوي والمؤصّل، والذي أمدّته فيه الرحلة الأفريقية، وخصوصا الالتحام بالجزائر المقاومة لأشرس احتلال فرنسي، وتبنيه مركزية التبرير للعنف الأخلاقي، وهي استخدام كل قدرة في السلاح التقليدي، وفي بأس الشعوب المقهورة، كقوة شرعية أخلاقية، بسبب أنها الوسيلة الوحيدة لقمع النظام العالمي الجديد، البرجوازي والمتوحّش، والذي لا يعترف بأي أهليةٍ مقابلة، ولا مقاربة للإنسان الآخر.
ويعتمد فانون هنا على أرشيف ضخم من الممارسات والسياسات التي تهيمن على منظومة الإمبريالية الدولية في فرنسا وأميركا وبريطانيا، وحجم خديعتها الشعوب المقهورة، ويُسند فلسفته بوقائع وأحداث، باستحالة اعتدال الغرب ووقفه لسياسته المتطرّفة ضد الإنسانية، وأنه لا خلاص للمعذّبين في الأرض من دون قوة تحميهم، تتجاوز التترّس المدني الذي يفرضه الغرب لصالح مدنييه، وهو، في الوقت نفسه، يفتك بكل قوة بمدنيي العالم الآخر، عبر قتله واستباحته الملايين من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وغيرها، وتدمير أرضهم وبيئتهم.
يرفض فرانز فانون كما رفض من بعده بن لادن، رغم اختلاف الأيديولوجيتين، أن يُنزع حق المقاومة بالعنف الأخلاقي
وهنا توقف مهم جداً في أهمية قراءة فلسفة العنف الأخلاقي، بين المجالين الماركسي و"الجهادي" الحديث الذي أعلنه زعيم تنظيم القاعدة التاريخي أسامة بن لادن، فهناك تطابق دقيق بينه وبين فرانز فانون، ففلسفة المدافعة بالعنف الأخلاقي كونها ضرورة لردع التوحّش الغربي، والذي كان يتمثل في عمليات القوة الغربية الإمبريالية، حسب الإحصاءات وطبيعة جرائمها الموثقة، ولهُ جذور في تاريخ العالم، هذا فضلاً عن الحروب الدينية في الغرب ذاته.
ويرفض فانون هنا كما رفض من بعده بن لادن، رغم اختلاف الأيديولوجيتين، أن يُنزع حق المقاومة بالعنف الأخلاقي، الذي قد يصيب المدنيين الغربيين في كفاح العالم الجنوبي، ليس قصداً ولكن محاولة لردع ما اعتبره فانون أقصى درجات الإرهاب التي تعيشها البشرية، عبر هذه القوى الكولونيالية. ويرفض فانون بحزم أي اعتذارياتٍ تقدّم للغرب، ويراها محض مقاييس مزدوجة لا قيمة لها في العدالة الإنسانية. ولعلي اُرجّح هنا أن خطاب أسامة بن لادن، وخصوصا حين الرجوع إلى رسائله التي صادرتها القوات الأميركية وسجله، التي حرص مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) على طمسه، وبالذات رسائله، حين اندلاع حركة الربيع العربي، وكانت أكثر اعتدالاً من مبادئ فانون، غير المُتَحفِظ على خسائر الغرب المدنية في مواضع الصراع، سوى أن الفارق هي عمليات القاعدة خارج مسرح الأمم المضطهدة. ولم أر لفانون رفضاً لها، لكنها لم تبرُز في فلسفته، بينما حضرت بقوة في خطط القاعدة المركزية، هذا مع إعادة دراسة فكر أسامة بن لادن وتحوّلاته التي تحتاج إلى استقلال وشفافية للوصول إلى المصادر.
ولربما كان اندفاع القاعدة إلى ممارسة العنف الأخلاقي مع العالم الإسلامي ذاته تحوّلاً مركزياً لأسامة بن لادن، بسبب تأثيرات حركة الجهاد المصرية وغيرها، فاشتبكت مع شعوب الجنوب عبر مقاتلة القوى الأمنية والداخل الوطني في المجتمعات المسلمة، وهو ما كان مشتركاً آخر في فلسفة العنف الأخلاقي.