مدرسة الروابي للبنات
في ضوء العاصفة الأردنية الإلكترونية التي اجتاحت مواقع التواصل، إثرعرض مسلسل "مدرسة الروابي للبنات" (إخراج وكتابة تيما الشوملي) على قناة "نتفلكس"، الذي حقق أعلى نسب مشاهدة في الأردن ودول عربية عديدة، تعمّدتُ متابعته، بصحبة مجموعة من الفتيات المراهقات، رصدتُ، في الأثناء، تفاعلهن معه. عبرت الصغيرات عن إعجابهن الشديد به، وأكدن وجود ظاهرة التنمّر بأشكالها المختلفة في مدارسهن، وسردن تجاربهن في هذا السياق. واعترفن باستخدامهن اللغة الخشنة الشائعة فيما بينهن، تيمناً بنجومهم المفضلين في الأفلام الأميركية. ويتحسّس بعضهن من كلمة تنمّر، ويعتبرنها مفهوماً مستورداً من الغرب المتوحش! ويفضلن استخدام كلمة الاستقواء، مع أن وقع كلمة تنمّر أقوى تأثيراً في النفس. والمشكلة ليست في المفردة بحد ذاتها، بل في حقيقة وجودها منذ القدم في المجتمعات الطلابية.
أثار المسلسل عاصفة من الجدل وصل إلى حد التجريح والقدح والذم، إذ قابله بعضهم بترحاب شديد، فيما شنّت جماهير غاضبة من حرّاس الفضيلة حملة شعواء، جلدوا خلالها المخرجة وفريقها، وكالوا أقذع الشتائم، شديدة الانحطاط، بذرائع أنّ العمل يخدش الحياء العام، ويشجّع الرذيلة، ويتنافى مع العادات والتقاليد. وفي ذلك تجنٍّ كبير وتشويه لرسالة العمل النبيلة، لأنه تناول قضايا أساسية تعاني منها مجتمعاتنا، مثل التفكّك الأسري والتنمّر وجرائم الشرف، وتناول أيضاً عوالم المراهقة المركّبة والخفية. وسلط الضوء على الجانب النفسي للمراهقين، وهو جانبٌ شائك ومعقد ومرتبك. وبحسب علم النفس، غالباً ما يشعر المراهق بانعدام الثقة بمحيطه، وبروح العدائية والسخط والغضب. ومن الصعب عليه أن يعبّر عن نفسه أمام الكبار. والأخطر أن لديه قدرة خاصة على كتم الأسرار، مثل وقائع تعرّضه للتحرّش أو الأذى الجسدي والنفسي.
التقطت تيما الشوملي هذه الثيمات، وعبّرت عنها ببراعةٍ. وأتقنت الصبايا المشاركات أدوارهن بشكل لافت. وأكدت المبدعة الثلاثينية، راكين سيلاوي، موهبتها الكبيرة، حين تمكّنت من أداء دور المراهقة. وأبدعت في تطويع حركة الجسد وتعابير الوجه وطريقة النطق بما يتلاءم مع عمر الشخصية، وذلك ليس أمراً يسيراً. خطيئة تيما التي لم يغفرها الجمهور، أن فضاء العمل جرى في أجواء بورجوازية من حيث المشاهد التي لم تخلُ من فخامة وأبهة، ولا سيما البيوت الفاخرة والمدرسة الخاصة النموذجية التي تقتصر على بنات الأثرياء، ما أثار حساسية بعض المشاهدين، على الرغم من الجهد الكبير الذي بذلته تيما وفريقها، واتضح في أداء الممثلات، وفي جماليات المشاهد والتنقل الرشيق فيها، وفي الاختيارالموفّق للموسيقى والأغاني التي تعبّر عن ذائقة الجيل ومزاجه، والنهاية الذكية المفتوحة على أكثر من احتمال، والتحوّل الدرامي في طبيعة الشخصيات، ومراوحتها بين الخير والشر.
لم يخلُ "مدرسة الروابي للبنات" من بعض الهنات على المستوى الفني، سواء من حيث النص أو مساحة الأدوار الهامشية التي أعطيت لكبار نجوم الدراما في الأردن (باستثناء دور ريم سعادة)، فقد ظهر نجوم الدراما المكرّسون كأنهم كومبارس فائض، لم يقدّموا للعمل إضافة تذكر، ولم تُستثمَر مواهبهم وخبراتهم الطويلة كما ينبغي. وكان في الوسع تعميق مساحة أدوارهم، لتبدو أكثر تأثيراً، على الرغم من قصرها. وعلى الرغم من ذلك كله، يحمل العمل رسائل توعوية ضرورية بشأن أهمية دور الأسرة في تنشئة بناتهم، وخطورة الاستخدام غير الرشيد لوسائل التواصل الاجتماعي. ويحثّ الفتيات على الحديث بصراحة عن أي واقعة تحرّش يتعرّضن لها، من دون خوف من لوم أو إحساس بالعار، كما ينبه الفتيات إلى مغبّة الثقة بالغرباء والاندفاع وراء مشاعر الحب الزائفة التي قد تؤدّي بهن إلى نتائج وخيمة. وينتصر المسلسل للأنوثة، ويدين المجتمع الذي يتساهل مع الشاب الذي يرتكب الأخطاء ويسمح بإزهاق روح صبيةٍ فقدت الاهتمام والرعاية في البيت، فبحثت عنهما مع الغرباء من باب التعويض النفسي، حيث تتضاءل هنا حالة الغفران، وتُشحذ السكاكين وتشهر المسدسات غسلاً للعار.
أما الحالة الساخطة التي أحدثها المسلسل، فلا يمكن تبريرها إلا بفقدان القدرة على التلقي وانعدام الخيال لدى هؤلاء الذين يحفظون عن ظهر قلب مسرحية مدرسة المشاغبين مثلاً، بكل ما تحمله من مضامين ذكورية فجّة خالية من الذوق. يبدو أنهم يجهلون معلومة بسيطة، أن الاشتراك في "نتفليكس" ليس إجبارياً بموجب أمر دفاع. وبالتالي لديهم الخيار كاملاً لحماية مشاعرهم العفيفة المرهفة من أي أعمال فنية تخدش حياءهم. المفارقة الطريفة أنك حين تستعرض الأعمال العشرة الأكثر مشاهدة في الأردن، تجد أنها لمن هم فوق 18 عاماً، وذلك فصام جمعي سافر، يبعث على كثير من الحيرة!