مسلمو فرنسا في قبضة ماكرون بونابرت
فرنسا على صفيح ساخن، وقد بدأ العدّ التنازلي في معركة الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 10 و24 الشهر المقبل (إبريل/ نيسان). ويؤكد سبر آراء الفرنسيين تصدُّر أربع قوى يمينية تتنافس على القومية والتشدّد ضد المسلمين، ويتقدّمها حزب الرئيس إيمانويل ماكرون، الجمهورية إلى الأمام، ويليه حزب "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبان، وتحلّ في المركز الثالث فاليري بيكريس، مرشّحة "حزب الجمهوريين"، ويكتفى بالمركز الرابع حزب "الاسترداد" ومؤسّسه إريك زيمور، الكاتب السّجالي اليهودي، الذي يرى النازية أفضل بكثير من الإسلام. وذهب أبعد من منافسيه في خطاب الكراهية، وجَهَرَ برغبته في "تطهير" فرنسا من المسلمين، لاعتبارهم "أجانب" و"غزاة" و"مغتصبين" ينبغي طردهم واسترداد فرنسا، مثلما "استردّت" الحروب الإسبانية المسيحية الأندلس، بعد طردها المسلمين. وفي حال لم تستطع فرنسا طرد كل المسلمين، يتوعّد زيمور اضطهادهم وملاحقتهم حتى تُفرض على أبنائهم أسماء فرنسية بدلاً من محمد وعلي وفاطمة. وتضفي النخب الفرنسية على خطاب المرشّح الرئاسي الفاشي كثيراً من الاحترام، بوصفه يمينياً متطرّفاً.
أمّا وقد صعد زيمور منصّة نيات التصويت إلى جانب المتطرّفة مارين ابنة المتطرّف جان ماري لوبان، فقد عاد الحديث عن ضرورة تكرار سيناريو رئاسيات 2017، بالالتفاف، مرّة أخرى، حول ماكرون لمواجهة مدّ التطرّف اليميني. ويوحي هذا الموقف بأن المنقذ ماكرون يمثّل الاعتدال، في حين أن سياساته السلطوية وشعبويته هي التطرّف بعينه، فإن كان زيمور قد تعهد أنه، في حال انتخابه، سيتعامل مع المسلمين مثلما عامل الإمبراطور نابليون بونابرت الأول اليهود، فإن ماكرون سبقه في تلك المهمة، وسار على خطى نابليون، مستبدلاً عداء اليهود بالمسلمين.
لبناء دولة قومية مركزية تدعم حكمه، أشرف نابليون على سنّ ترسانة قوانين مدنية تحمل اسمه، وتغطي جميع مناحي الحياة
نابليون، ابن الثورة الفرنسية ومُجهضها، يُعدّ أول رجل دولة وَعَدَ اليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين، لاسترضاء أثريائهم والحصول على دعمهم لحملاته العسكرية، وكي يصدّر "المسألة اليهودية" من أوروبا إلى فلسطين. تبخّر وعد نابليون بعد أن هُزم جيشه وسُحق أمام أسوار عكّا سنة 1799، وكشف عن وجهه الحقيقي تجاه يهود فرنسا في رسائل بعثَ بها في عام 1806 إلى وزير الداخلية الفرنسي، دو شمباني، حول "مشروع تنظيم الأمّة اليهودية"، وصفهم بالنجاسة والدونية والجشع والانعزال، وشكّك في ولائهم لفرنسا، واعتبرهم خطراً محدقاً يجب السيطرة عليه، إنْ تعذّر القضاء عليه. "يجب الحدّ من ميول الشعب اليهودي نحو ممارسات عديدة مناقضة للحضارة والمُخلّة بنظام المجتمعات عبر العالم، أو القضاء عليه. يجب وضع حدٍّ للشرّ بمنعه، ويجب منعه بتغيير اليهود"، كتب نابليون إلى وزيره.
اتهم نابليون اليهود بأنهم "شعبٌ يُشكّل، بحكم أعرافه وقوانينه، أمّة داخل الأمة"، مردّداً تذمّر سكان منطقة الألزاس، شرقي البلاد، حيث كان نصف اليهود يعيشون حسب قوانينهم ومحاكمهم ومؤسّساتهم. الواقع أن فرنسا بأكملها لم تكن مندمجةً آنذاك، وكانت تعيش حالةً من الفوضى نظراً إلى غياب قوانين تسري على جميع المواطنين، فبينما كان القانون الروماني يسري في الجنوب، كانت المناطق الشمالية، بما فيها باريس، تخضع للقانون العرفي الجرماني، وكانت الكنسية بدورها تشرّع في قضايا عديدة.
لبناء دولة قومية مركزية تدعم حكمه، أشرف نابليون على سنّ ترسانة قوانين مدنية تحمل اسمه، وتغطي جميع مناحي الحياة، ثم شرع في فرض هذه القوانين على الجميع، بدءاً بالكنيسة التي أجبرها على الخضوع لسطلة الدولة، وتولّى شخصياً تعيين الأساقفة والمطارنة، وأجبر رجال الدين على تأدية قَسَم الولاء. انتقل بعدها إلى مشروع "تغيير اليهود"، في حملةٍ استمرّت من 1806 إلى 1808، استهلّها بتنظيم مجلس وجهاء اليهود الذي أقسم له بالولاء، وتعهّد بالخضوع لقانون نابليون. ثم عقد "السنهدرين الأكبر"، وهي الهيئة القضائية العليا لليهود، وأجبره على التصديق على قرارات مجلس الوجهاء، والإشراف على تنفيذها، فأصدر السنهدرين قوانين تحظر تعدّد الزوجات وممارسة الرّبا وتقرّ إجبارية الطلاق المدني، وتغيير المهن التي احترفها اليهود وإبطال كل القوانين الدينية التي تتعارض مع القانون المدني.
يغازل ماكرون المتطرّفين الفرنسيين بكل أطيافهم، من أقصى اليمين القومي العنصري إلى أقصى اليسار اللائكي الإسلاموفوبي
انتهت حملة نابليون بمرسومين: أخضع الأول الشؤون اليهودية لإشراف مجلسٍ كنسيٍّ مركزي، بينما نسف الثاني، المعرّف بـ "مرسوم العار"، جلّ مكتسبات الثورة الفرنسية التي منحت اليهود حق المواطنة، وحاولت دمجهم في المجتمع عن طريق المدرسة والعمل. فرض هذا المرسوم قيوداً على نمط عيشهم وعملهم وثقافتهم، وحدّ من حرّية سكنهم، وأجبرهم على الزواج من المسيحيين، وإجراءات أخرى جاءت لتطبّق مشروعاً علمانياً لخّصه نابليون، في إحدى رسائله إلى دو شمباني: "حين يخضع اليهود للقوانين المدنية، لن يتبقّى لهم من اليهودية سوى العقيدة، وسوف يكفّون عن اعتبار الدين القانون المدني الوحيد، كما هو الشأن بالنسبة للمسلمين".
بعد مرور قرنين ونيف على هذه الأحداث، قرّر ماكرون أن ينطلق من حيث توقف بونابرت، ويتقمّص دور الإمبراطور تجاه المسلمين. وبينما انقلب نابليون على الثورة، اكتفى ماكرون بالانقلاب على نفسه. حصد أصوات المسلمين في رئاسيات 2017 بحديثه عن الانفتاح والتعدّدية وخطورة التطرّف اللّائكي، وتأكيده أن الجمهورية لائكية، ولكن المجتمع ليس كذلك، وأن الإسلام يتوافق مع الجمهورية. لكن، مع حلول الانتخابات البلدية لسنة 2020، اختار أن يقلب المعطف، كما يقول المثل الفرنسي، ليغازل المتطرّفين الفرنسيين بكل أطيافهم، من أقصى اليمين القومي العنصري إلى أقصى اليسار اللائكي الإسلاموفوبي.
وَصَف َماكرون مسلمي فرنسا بـ"القوى التي تنخر الوحدة الوطنية"، وزايد على بعبع "الجماعاتية الإسلامية"، الذي يلوّح به اللوبينيون منذ الثمانينيات، بابتكاره مشكلاً سمّاه خطر "الانفصالية الإسلامية"، مشوّشاً بذلك على مصطلح الانفصال، المرتبط في فرنسا بمطلب سياسي لقومياتٍ الباسك والبريتونيون والكورسيكيون. ولشرح دلالة هذه "الانفصالية" المتخيّلة، ضرب الرئيس عدّة أمثلةٍ تافهةٍ تحيل إلى لحيةٍ كثيفة هنا، وحجاب هنالك، ورجل أو امرأة يرفضان المصافحة أو الاختلاط في المسابح العمومية. وبدل أن يعتذر عن طرد عشرات التلميذات المسلمات من المدرسة العمومية لارتدائهن "الحجاب"، وإجبارهن على التوجه إلى مدارس دينية، ألصق بأولياء أمرهن تهمة "الانفصال" عن المدارس الحكومية لأسباب دينية.
ملايين الفرنسيين، مسيحيين ويهوداً، الذين يعيشون خارج قوانين اللائكية، في جهة الألزاس وموزيل، لا أحد يزعجهم
وفي محاولةٍ لتقليد اجتماع نابليون بالسهندرتين، اجتمع ماكرون بوفدٍ يمثل مجلس الديانة الإسلامية، الذي لا يمثل إلا نفسه، وأمرهم بإعداد "ميثاق مبادئ"، يؤكد اعترافهم بقيم الجمهورية والامتثال لقوانينها، وغيرها من إملاءاتٍ رسّخت لدى بعضهم تهمة عدم انتماء المسلمين الفرنسيين للمجتمع والولاء له. ويقابل "مرسوم العار" البونابرتي قانون "محاربة الانفصالية الإسلامية" الذي أقرّه البرلمان في صيف 2021، ليصبح أهم إنجازات ماكرون، وأقبحها. وتفوّق الرئيس على تطرّف لوبان وزيمور، في حملة رهاب المسلمين، الوجه الجديد لمعاداة اليهود التي خاضها بونابرت باسم الدولة الوطنية، وواصلها ماكرون باسم الجمهورية اللائكية، بينما تثبت دراسات سوسيولوجية جادّة أن غالبية المسلمين مندمجةٌ في المجتمع الفرنسي، وأنه لا توجد كتلة مسلمة متدينة ومتجانسة، يمكنه أن يطلق عليها أحكامه وتعميماته.
أما ملايين الفرنسيين، مسيحيين ويهوداً، الذين يعيشون خارج قوانين اللائكية، في جهة الألزاس وموزيل، فلا أحد يزعجهم. في هذه المنطقة التي كانت تابعة لألمانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ما زال قانون بونابرت قائماً، وما زال رئيس الدولة الفرنسية يعيّن أساقفة الكنائس الكاثوليكية واللّوثرية وحاخامات المعابد اليهودية، وما زالت الجمهورية تدفع بسخاء رواتب رجال الدين، في انتهاك لقانون اللائكية الفرنسية المقدّس. لم يحاول ماكرون أو غيره بسط لائكية الجمهورية على الفرنسيين في ألزاس وموزيل، لأن مجازفةً كهاته ستكلفهم خزّاناً انتخابياً متطرّفاً يتهافت عليه السياسيون على نحو غير مسبوق.
لا أحد يدري ما تخبئه نتائج الانتخابات المقبلة الشهر المقبل، لكن بالنسبة لكثيرين من مسلمي فرنسا، أصبح الفرق بين زيمور وماكرون يشبه الاختيار بين الطاعون والكوليرا، كلاهما يسير بفرنسا من رهاب الإسلام إلى ترهيب العرب والمسلمين وطردهم من البلاد، بشكل أو بآخر.