مصر الملكيّة أكثر من الملك
في أكثر من مرّة، وأكثر من مناسبة، يدعو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وخبراؤهما مصر إلى التمهّل في بيع الأصول العامة للدولة المصرية، بل تفعيل بعض الضرائب التي تعطلها الحكومة المصرية بضغوط من الأغنياء والمنتفعين من السياسات النيوليبرالية التي يروّج النظام إنه يتبعها من ذاته ومن دون إملاءات، ويروّج مؤيدوه باعتبارها سياسات الضرورة ونجاحات محضة لهذا النظام ونخبته الاقتصادية العبقرية، في ما يبدو أنّ هناك شبكة مصالح داخلية قوية أكثر قناعة ودفعاً باتجاه تلك السياسات النيوليبرالية من دون النظر إلى عواقبها، لا على الفقراء أو الدولة فحسب، بل استقرار النظام السياسي أيضًا، فالجميع أدوات لدى هؤلاء لتحقيق المكاسب السريعة في ظلّ أزمات متداخلة وممتدّة.
هذه الأزمات، وإن بعضها قادمٌ من الخارج، أو ذو طبيعة يشترك فيها الداخل مع الخارج، وتتقلص فيها موارد الدول النامية كنتيجة طبيعية لأزمة الديون السيادية العميقة التي تقتضي الاستدانة من أجل دفع أقساط وفوائد الديون السابقة مع مزيدٍ من التقشّف الذي كان موجوداً في بنية هذه السياسات، وعمّقته أزمات كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وفي منطقتنا الحروب المستمرة لعقود، وليس آخرها حرب غزّة وتبعاتها الإقليمية على اقتصاداتٍ شديدة الهشاشة في دول الطوق المجاور لفلسطين المحتلة، إنّما تفضي طرائق التعامل معها على النحو المتبع إلى مزيد من التفاوت، وتزايد حظوظ المنتفعين من تلك الأزمات، وتقود إلى مزيد من تغوّل الدولة واستفحال الاستبداد، حيث تظهر الدولة ونظامها السياسي حامياً مستبدّاً للغالبية التي يجرى سحقها وإفقارها تلقائياً بتلك السياسات.
العجيب أن تطالب المؤسّسات المالية الدولية بمزيد من الحماية الاجتماعية والتمهل في إجراءات التقشّف وبيع القطاع العام على النحو المتبع في مصر، لكنّ الأعجب أنّها لا تعلّق اتفاقاتها رغم استمرار تلك السياسات، وتظهر وكأنّها فوجئت من انفجار مؤشّرات التضخّم والفقر عقب كلّ تعويم باعتبار أنّها تفوق توقعاتها، وكأن إلقاء ملايين الناس تحت خطوط الفقر نتيجة متوقّعة وحتمية، وأثر جانبي مقبول لتلك السياسات. الأعجب من هذا وذاك أن تطلب منّا نخبٌ محلية، وكتّاب ومفكرون، تحمّل تلك النتيجة لذلك الدواء المرّ من دون أن يأخذ أحد رأينا في هذا الدواء، ولا الطبيب المعالج، ولا قرار تلقّي العلاج من عدمه.
كأنّ إلقاء ملايين الناس تحت خطوط الفقر نتيجة متوقعة وحتمية وأثر جانبي مقبول للسياسات الاقتصادية!
وبينما يعمل المصريون ليل نهار وعلى مدار الساعة، توجّه الحكومة ونخبها المالية حصيلة جهدهم كلّه إلى سداد ديون وفوائد على أموال ساخنة، لطالما أخبرونا أنّها استثمار وأشادوا بنجاحهم في جلبه. وإذا كشف الباحثون والكتّاب زيف هذا الادّعاء عادوا وتعهدوا بألا يعتمدوا مرّة أخرى على الأموال الساخنة لتسكين الرأي العام ونخب الكتّاب المحدودة، ليعودوا لهذه السياسة وبعد رفع الفائدة على أذون الخزانة والسندات الدولارية لثلاثين بالمائة لنواجه في المستقبل القريب عمليات هروب لتلك الأموال الساخنة أكثر من الهروب السابق، وأزمة عملة أشدّ من السابقة، ونعود بذلك لنفس الدائرة.
يدافعون عن سعر الفائدة المرتفع بأنه سياسة اتّبعت في تركيا والأرجنتين لتعويض المواطنين عن التضخّم، بينما في الحقيقة أصبحت هذه الحالات في وضع أسوأ بتطبيق تلك السياسة، ويتناسون أيضاً ما حققته البلدان من إنجازات في العقدين الماضيين في مجال مكافحة الفقر وتحسين الخدمات العامة في مجال الصحة والتعليم والنقل.
عندما يتحدّث الباحثون والكتّاب عن المشروطيات القاسية لتلك المؤسّسات المالية الدولية وضرر سياساتها على عموم المواطنين، فإنّ الحكومة عادة ما ترد عبر فنييها وخبرائها بأنّ هذه خيارات تكنوقراطية محلية تماماً، ولم يفرضها عليها أحد، ونبقى في حيرة هل هي خيارات محلية حقاً أم أنّها نتاج رجالات الصندوق والبنك والمؤسّسات الدولية الذين يجرى تدويرهم محليًا كوزراء ورؤساء بنوك وشركات عامة قبيل تصفيتها؟
بينما يعمل المصريون ليل نهار وعلى مدار الساعة، توّجه الحكومة ونخبها المالية حصيلة جهدهم لسداد الديون والفوائد
وعندما يتحدّث البنك والصندوق أنه لم يكن يتوقّع ارتفاعات الّم والفقر لهذا الحدّ، بعد كلّ اتفاق وتعويم، يتبارى خبراؤنا المحليون بالبحث عن تجارب لتبرير هذا النهج، ويتناسون ارتباط كلّ شيءٍ بالتضخم في هذه التجارب، فالحدّ الأدنى للأجور بتركيا مثلًا، يزيد بنسبة أعلى من التضخم، وبالتالي فالدخل الحقيقي للفقر يزيد بشكل دوري والتطبيق إلزامي، ليس فقط لموظفي الدولة والقطاع العام، بل على القطاع الخاص أيضاً، ولا يقتصر الأمر على الموظفين، بل عادة ما يتم فرض زيادة بنسب تتوافق مع معدل التضخّم في تقاعد الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي الاختياري.
كما أنّ أسعار الإيجارات تزيد قانوناً وفقاً لمعدل التضخم العام، بالإضافة إلى أن البلديات تمتلك مطاعم ومقاهي اجتماعية أسعارها اقتصادية جدّا وخدماتها أفضل من القطاع الخاص، والشيء نفسه في الخدمات الرياضية البلدية للمواطنين، وكذلك الالتزام الصارم بنصوص قانون العمل بخصوص الوجبة اليومية لجميع الموظفين.. هذه بقايا دولة اجتماعية راسخة منذ الستينيات، ويزايد السياسيون على بعضهم في تعزيزها مع خلافات حول التسعير والنسب هنا وهناك، لكن تظلّ محافظة على مستويات الدخول الحقيقية للمواطنين، وليس أعباؤهم هي التي تتزايد فقط، وإنّما رواتبهم أيضا.
تظهر الدولة ونظامها السياسي حامياً مستبداً للغالبية التي يجرى سحقها وإفقارها جرّاء السياسات الاقتصادية الفاشلة
فقد كان الحدّ الأدنى الصافي للأجور 2020 ليرة في عام 2019 بما يوازي 355 دولاراً حينها، وقد ارتفع بالتوازي مع التضخم ليصل لأكثر من 17 ألف ليرة، أي حوالى 555 دولاراً، بما يعني أنّه حتى بالنسبة للأسعار العالمية للدولار، فإنّ دخولهم الحقيقية تزايدت، وبالتالي هناك تعويض حقيقي للمواطنين عبر سياسات الأجور وليس فقط سياسة رفع الفائدة التي عادة تستهدف المودعين وكبارهم على وجه التحديد، مع ذلك فإنّ رفع الفائدة في التجربة التركية قد تكون له آثار كارثية، سواء على القطاع العقاري أو الصناعي، حيث لم يستطيعا مجاراة البنوك في تحقيق أرباح تقترب حتى من معدلات الفائدة المرتفعة، وبالتالي استدلال الخبراء المصريين بهذه التجربة هنا ليس في محله، بل ويغفل سياسات حقيقية اتبعت على مدار عقدين أو أكثر لضمان حماية حقيقية للفقراء على ما تواجهه من انتقادات وشكايات متزايدة من المواطنين من تلك السياسات، حيث وعد التكنوقراط بخفض التضخم وبشّروا بأثر رفع الفائدة، وبرغم وصول الفائدة إلى 50 %، وهي ربّما المعدلات الأعلى عالمياً، لم ينخفض التضخم بل تزايد عمّا قبل.
والمتّبع هنا في الحالة المصرية، تجاهل التوصيات الجيّدة، سواء من خبراء في الداخل والخارج أو من بعض خبراء المؤسسات المالية الدولية، وهذا لا يبرئ ساحة البنك والصندوق الدوليين والمؤسّسات المالية الدولية، فهي تتواطأ كثيرًا بشأن عدم تنفيذ توصيات عديدة متعلّقة بالشفافية ودورية التقارير والحوكمة والتروّي في بعض الإجراءات، وتواصل نفس سياساتها لهدف أهم وغير خفي وظاهر في العديد من أوراق هذه المؤسّسات، وهو استدامة القدرة على الوفاء بالديون، وهذا مفهومٌ في ضوء أنّه من غير المطلوب من بنك أن يحارب الديون أو أن يطالب بالحدّ من المديونية، لكن على الأقل منطقياً ألا يحدثنا أنّ هذه السياسات هي لخير ورخاء الشعوب في حين أنّها إدارة بالأزمة وإدارة للأزمة، وتعويم لأنظمة فاشلة؟