مصر بعد عام من إطلاق الحوار الوطني
أطلق الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في 25 إبريل/ نيسان العام الماضي (2022) ما عرف بالحوار الوطني الذي هللت له أطرافٌ في المعارضة الساذجة في الداخل والخارج، معتقدةً في جدّيته أو إمكانية دفعه نحو الجدّية، وأن هذا النظام العسكري يمكن التكيّف معه أو الخروج منه أو إخراجه من عثراته وعثرات البلاد بمثل هذه الدعوات إلى الحوار. رحّب كثيرون بالدعوة، باعتبارها حجراً في بحيرة الركود السياسي الداخلي والتأميم التام للمجال العام لصالح الرئيس طبيب الفلاسفة، وتكلمه مصر ويكاد يكون في مخيلته كليماً لله.
ألقى بعضهم آمالاً في غير محلها على لجنة العفو التي بالغت في تقدير ذاتها وتفخيم الرئاسة وإرادتها في فتح الحوار كما لو كان القائمون على اللجنة مكلفين غسل الملف السيئ للنظام المتعلق بالاعتقالات السياسية والاختفاء القسري وغيرها مما فاحت رائحته وطاولت المصريين وغير المصريين.
ابتهج أصدقاء لكاتب هذه المقالة بالدعوة إلى الحوار، منهم الباحث السياسي، أمجد الجباس، ورغم أنه غير محسوب على أيٍّ من القوى المعارضة في الداخل والخارج، وأنه، في أحيان كثيرة، يستعمل روح الباحث في تقديم توصيات وإرشادات للنظام، للتعامل مع ملفّات وقضايا بروح الناصح المسلّم بالأمر الواقع الذي لا يدّعي قدرة على تغييره، ولا يعبر عن رغبته في هذا على صفحاته، حال قلة قليلة من الباحثين والكتّاب الذين احتفظوا ببعضٍ من العقل والاحترام للذات وللمجتمع، ولم ينجرفوا في ماكينة التطبيل للنظام الحالي، إلا أنه وللأسف، اعتقل في أثناء عودته لقضاء إجازة عيد الفطر العام الماضي، من دولة خليجية صديقة للنظام منذ انقلابه في يوليو/ تموز 2013.
نظام مبارك، الرئيس الذي ابتعد كثيراً عن كونه وكيلاً للمؤسّسة العسكرية، يختلف عن النظام الحالي القادم بالدبابة، ويعتبر الجيش حزبه السياسي
كان صديق آخر متفائلاً بالحوار بحذر، لكنه كان يبدي تخوّفه من عدم جدّيته، ويأمل أن يسلك النظام طريقه بجدّية، وهو هاني سليمان. علمت نبأ اعتقاله منذ قرابة ثلاثة أسابيع، لأنه طرح أسئلة بسيطة على صفحته على "فيسبوك" بشأن جمهورية مصر الكرتونية وإمكانية التغيير وفرصه، الذي تدعو إليه نخبٌ مغيبة عبر المشاركة في الانتخابات الهزلية المقبلة، ليُثبت له النظام بنفسه عدم جدّيته في هذه الحوارات، وبالتالي نصبح أبعد حتى عن نموذج حوارات الرئيس السوداني السابق عمر البشير التي أبقته قرابة 30 عاماً في السلطة من دون إنجاز حقيقي في أي ملفّات تنموية.
يسوّق النظام نفسه للخارج بإطلاق دعوات الحوار والعفو. وبينما لم يفرج إلا عن عشرات، يعتقل مئات من الوجوه الساخطة الجديدة، وكأنه يريد أن يضمن تجديد استبداده وتربية الجميع تربية عسكرية، تقنعهم بأن لا سبيل إلى تغييره بانتخاباتٍ أو احتجاجاتٍ أو غيره، فهو أكبر من أن يقال أو يحاصر شعبياً فيهرب، وربما يرى نفسه أكبر من الموت لاحقاً، لكنه يطلق فقّاعات لمعارضته المستأنسة لتلتهي بها.
ومن سخريات هذه المعارضة التي دخلت هذا الحوار، أو ساهمت فيه أو اشتبكت معه بطريقة أو بأخرى، أنها منسحقة إلى درجة تشعرنا بأنها تدخل مثل هذا الحوار كما لو كانت عارية من دون أية أوراق في الداخل والخارج، وأقصى آمالها إطلاق سراح مائة من أتباعها المعروفين من السجون، حتى لو اعتقل النظام مئات آخرين، وترى هذا شرطاً معقولاً لا يزال يتفاخر به حمدين صبّاحي.
يسوّق النظام نفسه للخارج بإطلاق دعوات الحوار والعفو. وبينما لم يفرج إلا عن عشرات، يعتقل مئات من الوجوه الساخطة الجديدة
من سخريات هذه المعارضة أيضاً، وليس من باب المزايدة عليها، ونحن لا نملك رفاهية المزايدة على أيٍّ من معارضي هذا النظام في الداخل أو الخارج، أنّ هناك من ينظر إلى انتصار خالد البلشي بمقعد نقيب الصحفيين خطوة مبشّرة بإمكانية تحقيق نصر انتخابي أو خوض انتخابات، وفتح الحديث عن الإشراف القضائي عليها، وهو حديث تكرّر على لسان السيسي، وكأنه شديد الثقة من أنه إذا جرت انتخابات حرّة نزيهة سيفوز.
يفوت هؤلاء أن نظام حسني مبارك بقي عدة سنوات، لديه معارضة حقيقية في النقابات والجامعات أو مجلس الشعب، سواء في الثمانينيات أو التسعينيات أو حتى مطلع الألفية. وبرغم أن هذه المشاركات السياسية الحقيقية شكّلت تراكماً في مسار الحركة السياسية والاجتماعية المصرية، فإنّ نظام مبارك، الرئيس الذي ابتعد كثيراً عن كونه وكيلاً للمؤسّسة العسكرية، يختلف عن النظام الحالي القادم بالدبابة، ويعتبر الجيش حزبه السياسي، ولا يثق حتى بالبيروقراطية ومؤسّسات الدولة التقليدية المترهلة.
لم نرَ في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر أية أنظمة عسكرية أقامت انتخاباتٍ حرّة نزيهة من تلقاء نفسها، فازت فيها المعارضة، فضلاً عن أننا أمام معارضةٍ شديدة الهشاشة والتشتّت والسذاجة كالموجودة في مصر، صراعاتها الداخلية أكبر من صراعاتها مع النظام، وتتعامل مع شبكة مافياوية معقّدة لتزاوج السلطة والثروة، لها ظهيرها الإقليمي والدولي، بشيءٍ من السطحية عبر مقارنة انتخابات نقابةٍ بانتخاباتٍ لا يتخوّف النظام نفسه من إجرائها، ويمكنه تفصيلها حيث لا يرضى هذا النظام بمنافسٍ أقوى من حمدين صباحي صاحب المركز الثالث في انتخابات جرت بين شخصين، أو موسى مصطفى موسى الذي ربما أعطى صوتَه لمنافسه.
يؤمل أن توحّد المعارضة المصرية صفوفها، وتخوض حواراً بينياً حقيقياً بين كلّ القوى المصرية خارج السلطة، فهذا وحده ما يقلق النظام
ما يجعلنا ننتهي إلى قول الصديق هاني سليمان، فكّ الله حبسه وعشرات آلاف من المصريين، أن القوى السياسية الوطنية وأحزاب المعارضة الكرتونية ورجال الدولة المدنية يصرّون على أنه يمكن لمدني منافسة السيسي، والوصول إلى حكم مصر، فهؤلاء إما طيبون جدّاً أو سذّج جدّاً أو على نياتهم جدّاً جدّاً جدّاً، ولا أقول إنهم متواطئون أو موالسون أو منتفعون، وأن هذا النظام لن يرحل إلا بواحدةٍ من ثلاث: إما بانقلاب عسكري جديد قد يكون صريحاً أو غير صريح، أو بإرادة من الله عز وجل وانتهاء العمر لأي سبب، أو بانتفاضةٍ شعبيةٍ ساحقةٍ تهدّد بخراب البلد، فتضطرّ شلّة المنتفعين من السيسي إلى التخلي عنه. وهذه الانتفاضة بالذات لا يتمنّاها سليمان وجيله والنخب السياسية ذاتها، ويتخوّف منها مصريون كثيرون.
صحيح أنّ النظام في مصر يواجه عقباتٍ أمام طريق تعويمه مع شركائه الاستراتيجيين في الإقليم. لكن أمام السذاجة السياسية التي تتمتع بها المعارضة، أقصى ما نطمح إليه أن يفطن هؤلاء إلى أهمية التنظيم والحديث بجدّية عن حوار مع الرعاة الإقليميين لهذا النظام، وترك التعالي على دول الخليج جانباً، فهي من تتحكّم حالياً بمقدّرات مصر، وتتصرّف قيادات بعض هذه الدول ورؤساء صناديقها السيادية ومؤسساتها الاستثمارية في مصر كما كانت تتصرّف لجان تصفية الديون أو المندوبيات السامية البريطانية في الدول الواقعة تحت حكم بريطانيا العظمى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
يؤمل أن توحّد هذه المعارضة صفوفها، وتخوض حواراً بينياً حقيقياً بين كلّ القوى المصرية خارج السلطة، فهذا فقط ما قد يقلق النظام، ويرشد أي مسار تغييري محتمل ومرغوب.