مصر وسياستها الخارجية وأزمتها الاقتصادية وجدل المقاطعة
بالتوازي مع انطلاق "طوفان الأقصى"، وتطوّر مستوى الإجرام الإسرائيلي بحقّ أشقائنا الفلسطينيين، في قطاع غزّة والضفة الغربية، وانطلاق حملات التضامن العالمي والمقاطعة الموسعة لداعمي الاحتلال، لم يكن الشعب المصري بعيدا عن تلك الأحداث، كما لم يكن بعيدا عن القضية الفلسطينية يوما، إنْ بروابط الدم والعروبة والدين والجغرافيا والسياسة والاقتصاد. وبطبيعة الحال، أجبر هذا حتى النظام الحالي على التخوّف والتحسّب من الوقوف بوجه الطوفان الشعبي الداعم لفلسطين، وهو الأشدّ قربا من إسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرّفة وتنسيقا معها في تاريخها.
لكن هذا التخوّف والتحسّب، حتى وإن تمت محاولة الركوب على موجاته بدعوات إلى مظاهراتٍ لدعم فلسطين أرادها النظام في مصر أن تظهر بوصفها دعما لموقف الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه، ولدعم سياساته في التعامل مع القضية وتطوّراتها، إلا أن فعالياتٍ منها انقلبت بالهتاف ضده، وكان شعارها "دي مظاهرة بجدّ مش تفويض لحدّ"، أي أنه أرادها تفويضا شعبيا جديدا له، فانقلبت ضده، ولم تُجد محاولاته لأخذ اللقطة فقط، باعتبارها تظاهرات مؤيدة له، يستطيع بها تحسين شروط التفاوض مع الأوروبيين والأميركيين، أو حتى مع بعض حلفائه في المنطقة.
هناك عوامل موضوعية أكبر من النظام السياسي الحالي لرفض تهجير أهل قطاع غزة، وقد تجبره كما تجبر غيره على رفض هذا المخطط، سواء من مخاطرة بانهيار اتفاقات السلام التي حيّدت مصر عن الصراع العسكري مع الكيان وقادتها لتطبيع مهين بشروط تجعل النظام في مصر حارسا على حدود الكيان ومصالحه، وتحرمه من سيطرة فعلية على سيناء، وتضعه في مواجهةٍ مع الفلسطينيين في كل حرب يدفع فيها المدنيين إلى النزوح، كما أنه يخشى، وهو استخباراتي عسكري، من وجود 2,3 مليون إنسان باحتياجاتهم وتحدّياتهم في شمال سيناء التي لم ينجح أحد منذ عقود من تنميتها في أن يصل بسكانها إلى أكثر من 450 ألف نسمة في مساحة تزيد عن ضعف مساحة لبنان مرّة ونصف المرة، وهجّر النظام الحالي أكثر من خُمس هذا العدد تقريبا في حربه على الإرهاب من المناطق الحدودية، ولم يعودوا بعد، على الرغم من إعلان انتهاء الحرب على الإرهاب. لكن هاته العوامل الموضوعية، وعلى مدار أكثر من 50 يوما منذ بدء الحرب، لم تُترجم إلى فعلٍ بما يكفي لإثبات أنها تتخطى الخطاب الأقلّ من عادي في مستواه إلى الفعل.
إذا أرادت مصر أن تبني سياسة خارجية أكثر استقلالية، عليها، أولاً، أن تعيد النظر في سياستها الاقتصادية ككل، وأولها في مجال الطاقة
بل إذا تخطّينا الخطاب العام والتحدّيات الاستراتيجية التي يشكّلها وجود الكيان ومخطّطاته الإقصائية، وإفشاله أي حلول سياسية وحروبه المتكرّرة الفاشلة على غزّة وهذا الجدل كله إلى مستوى آخر من الجدل العام المتعلق بمقاطعة الشركات صاحبة العلامات التجارية الداعمة للكيان بشكل عام، أو التي أعلنت تأييدها له ولحربه، فإننا إزاء انقسام الإعلام الرسمي وشبه الرسمي الموجّه جميعه، والمعروف بـ"إعلام السامسونغ" والتابع للأجهزة السيادية، انقساما واضحا إزاء حملات المقاطعة، فمنذ اللحظات الأولى، تولى عمرو أديب وإبراهيم عيسى حملات تتفيه المقاطعة وشيطنة الداعين لها باعتبارها ستتسبّب في أضرار بالغة للاقتصاد المصري، وستؤدّي إلى خراب بيوت منتجين وموزّعين مصريين. والحديث كان يدور في البداية حول مقاطعة سلاسل المطاعم الأميركية الشهيرة ماكدونالدز التي تعهّدت بتقديم وجبات مجانية لجنود الاحتلال، وظهرت صور تظهر تنفيذها تعهداتها، وهي السلسلة التي توسّعت، وأصبحت تنتشر في كل المحافظات المصرية تقريبا. وبطبيعة الحال، دفاع هؤلاء عن هذه الشركات وعدم مقاطعتها واه باعتبارها لا علاقة لها بالشركات الأم، وأنها شركات مصرية خالصة، وما إلى ذلك من ترّهات، ردّ عليها الشباب الداعون إلى المقاطعة بعديد مقاطع الفيديو والمنشورات على "السوشيال ميديا". بل ذهب الأمر ببعض الإعلاميين وضيوفهم المقرّبين من النظام لتخوين الداعين إلى المقاطعة وشيطنتهم، ناهيك عن شيطنتهم المقاومة ذاتها، باعتبار هذه الدعوات سعيا للإضرار بالاقتصاد الوطني المصري الذي يمرّ بأزمات حادّة، وباعتبارها حملات لجماعة الإخوان المسلمين، علما أن حملات المقاطعة قديمة قدم الاحتلال، وتوسّعت منذ الانتفاضة الفلسطينية، وكان للسجين السياسي السابق لدى نظام السيسي رامي شعث ولليسار المصري السبق في إطلاقها محليا والمساهمة في دفعها إقليميا وعالميا.
أصبحت في مصر تبعية مفرطة لإسرائيل في الغاز وفي قطاع الغزل والنسيج
ولكن قسما آخر من الإعلام يرى أن المقاطعة مفيدة للاقتصاد المصري المأزوم، باعتبار أنها أنعشت منتجات محلية عديدة بديلة لتلك التابعة لشركاتٍ دولية، كما أن هذا الانتعاش للبدائل المحلية يمنع تسرب القيمة المنظم الذي تمارسه الشركات العالمية باستغلالها للعمالة الرخيصة والمواد الأولية ثم تصدير الأرباح للخارج بالعملة الصعبة وهو ما يضغط على الاحتياطي النقدي للبلاد، وبالتالي فإن نظاما وطنيا كان ليدعم هذه الحملات، بل إنها تصبّ في اتجاه توطين الصناعة الذي تنادي به الحكومة، وتروّج أنها تخطّط له جيدا في اقتصاد يستورد قرابة 70% من مكوّنات إنتاجه من سلع وسيطة، ويحتاج سياسة جدّية لإحلال الواردات كجزء أصيل في أي حلول جذرية لأزمتنا الاقتصادية الهيكلية.
يعرف النظام، كما يعرف مموّلوه في الخارج والإقليم حجم الأزمة الاقتصادية الراهنة والمزمنة التي كان النظام سببا في تفاقمها بشدّة بسبب شره الديون، وبالتالي، لا عجب أن تطلب الصحف الإسرائيلية وبعض الغربية ومسؤولون أميركيون وأوروبيون ممارسة أقصى ضغوط على مصر للقبول بمخطط التهجير مقابل بعض تسهيلاتٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ وتيسيرات لعملية الاقتراض من المؤسّسات متعدّدة الأطراف، أو حتى من برامج الإقراض في إطار تعاون ثنائي مع بعض الحكومات الداعمة الرئيسية للاحتلال في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وربما إيطاليا.
فاقمت الحرب أيضا الأزمة الاقتصادية باستغلال الاحتلال التبعية في مجال الطاقة، والتي أحدثها النظام الحالي بترويج اتفاقات استيراد الغاز المُسال من إسرائيل، بحجّة إعادة تصديره، فأهملت المنشآت المصرية الرئيسية، وتم التركيز على التصدير، حتى وصلنا إلى انقطاعات للكهرباء بسبب الغاز الإسرائيلي الذي استيقظ المصريون فجأة على أنهم يستهلكونه فيما كان النظام يوهم الجميع بتصدير أرقام قياسية للغاز، واستطاعت إسرائيل قطع الغاز عن مصر من دون سبب حقيقي، سوى الابتزاز السياسي واستخدامه سلاحا ضد مصر وضد نظامها السياسي، بزيادة ساعات انقطاع الكهرباء والمدّة اللازمة لحل هذه المشكلة، بعدما كان الفخر الرئيسي للنظام الحالي أنه ضاعف إنتاج الكهرباء وزاد استكشافات الغاز وصادراته، لنكتشف أنه أصبح أكثر تبعية لإسرائيل من أي وقت مضى، عبر ما وقّعه من اتفاقات في مجال الغاز، ليصبح مركزا إقليميا للطاقة، فيما يعاني كل المصريين من انقطاعات الكهرباء بشكل منتظم في أزمةٍ لم تحل منذ عدّة أشهر.
يعرف النظام في مصر، كما يعرف مموّلوه في الخارج والإقليم، حجم الأزمة الاقتصادية الراهنة والمزمنة التي كان النظام سبباً في تفاقمها
في أحد النقاشات الهامة بشأن المقاطعة، نبّه صديق إلى أنه، وبرغم أهمية مقاطعة الشركات العالمية، فإننا نغفل عن مقاطعة شركات أوْلى بالمقاطعة، وهي المنضوية تحت اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة (كويز)، فهذه تدخل في منتجاتها نسبة مشروطة من المكوّن الإسرائيلي وتبيع سلعها في السوق المحلية أيضا، وإن كان هدفها الأساسي التصدير إلى أميركا. وبعد البحث عن قائمة الشركات تلك، تبيّن للأسف أنها تشمل قرابة 1165 شركة ومصنعا تسيطر على غالبية صادرات قطاع الغزل والنسيج، بعد تدمير مصانع القطاع العام التي كانت تشغل مئات الآلاف في هذا القطاع، وتباطؤ نموّه بالكلية بعد تغيير جذري فيه من التخلّي عن زراعة القطن طويل التيلة لصالح أنواع أقلّ جودة وأكثر إنتاجية ترسّخت لخدمة هذه الاتفاقية.
بالتالي، أصبحت في مصر تبعية مفرطة لإسرائيل في الغاز وفي قطاع الغزل والنسيج. كما أن العلاقة مع إسرائيل لم تعد منقذا لأحد، فمن ناحية لو كانت تقنياتها الاستخباراتية والأمنية التي تبيعها لأنظمة المنطقة بهذه القوة لما فوجئت بموقعة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولو كانت "كويز" مفيدة لما تراجعت أعداد العاملين في قطاع الغزل والنسيج وإنتاجيّته، ومن ثم على المصريين مراجعة اتفاقات التطبيع ذاتها لتأثيراتها الخطيرة على اقتصاد بلدهم، بالإضافة إلى التمسّك بالمقاطعة الشعبية لكل ما يدعم إسرائيل وما يستخدم منتجاتها كمكونات في إنتاجه بطريقة أو بأخرى.
في الأخير، إذا أرادت مصر أن تبني سياسة خارجية أكثر استقلالية، عليها، أولا، أن تعيد النظر في سياستها الاقتصادية ككل، وأولها في مجال الطاقة، وأن تخفّض اعتماديّتها على الغاز الإسرائيلي، وأن تراجع تلك الاتفاقات التي جعلتها عاجزة عن التحكّم بمعابرها مع قطاع غزة، ناهيك عن الردّ على الهجمات المتكرّرة على الحدود، حتى لا نصبح أمام نظام شبيه بالنظام السوري، ويجعل البلاد كلها مستباحة، محتفظا بحقّ الردّ إلى أجل غير مسمّى، إن لم يكن متنازلا عنه تارّة بتبرير الهجمات باعتبارها خطأ وتارات بالتواطؤ والضعف والعجز عن الردّ.