مغامرة "صلة رحم"
يذهب صنّاع المسلسل المصري "صلة رحم" بعيداً في الجرأة والمغامرة والاختلاف والسباحة عكس التيار، وهم يقاربون ثيمة بالغة الحساسية، لا تخلو من محاذير عديدة، وتصنّف ضمن التابوهات المتعارف عليها في الثقافة العربية، وهي ثلاثية الدين والجنس والسياسة، إذ تُعَدّ مواضيع محظوراً تناولها في الدراما العربية، ما لم تخضع لمعاير الرقابة على الأعمال الفنية قبل إجازاتها والسماح ببثّها إلى الجمهور. ويحدُث أن لا توافق تلك الجهات صاحبة الصلاحية والاختصاص على أي عملٍ يُعرض عليها لاعتباراتٍ سياسية أو دينية أو اجتماعية، لا يمكن تجاوزها تحت طائلة الوقوع في مآزق كبرى، ما يعرّض العمل للخسارة المادية، بسبب استحالة التسويق في ظل تلك المعطيات.
من هنا، يمكن اعتبار مسلسل "صلة رحم" مغامرة كبرى تُحسب للقائمين عليه على مستوى المضمون غير المطروق من قبل في الدراما العربية، سيما في المواسم الرمضانية التي تفرض خصوصيتها قيوداً إضافية على العاملين في صناعة الدراما، وقد يجد بعضهم أن مجرّد طرح فكرة تأجير الأرحام للنقاش درامياً ينطوي على مخالفة صريحة لأحكام الشريعة ونصوصها الواضحة في هذا الشأن، وهي ترى فيه ابتداعاً ومنكراً متعلّقاً بشبهة اختلاط الأنساب، ويؤدّي إلى إفساد معنى الأمومة وصبغها بالصبغة التجارية، وتؤثم من يقترفها، تصل إلى حدّ كذا.
يتألّف المسلسل من 15 حلقة، وهو من تأليف محمد هشام عبيه، وإخراج تامر نادي، وتمثيل إياد نصّار ويسرا اللوزي وأسماء أبو اليزيد، وغيرهم. ومثل عهده دائماً، تألّق الفنّان الأردني إياد نصار في تقديم شخصية "حسام"، طبيب تخدير يعاني من اكتئاب واضطراب نفسي، يتسبّب، وهو في حالة سكر شديد، بتعرّض زوجته الحامل لحادث سَير، يودي بحياة جنينها، ويحرمها فرصة الإنجاب من جديد، لأن الأطباء اضطروا إلى استئصال رحمها، وبذلك لن يكون بإمكانها الاستفادة من بويضاتها المجمّدة والمحفوظة في مركز طبي متخصّص. من هنا، تبدأ الحكاية، لنتابع حالة الندم وتأنيب الضمير واليأس التي تسيطر على حسام، وتدفعه إلى محاولة التكفير عن ذنبه الكبير من خلال عقد صفقة تأجير رحم مع أم بديلة، فتاة مسكينة مغلوب على أمرها، تدفعها ظروفها المعيشية القاسية والخوف من طليقها الذي لم يكفّ عن مطاردتها إلى الموافقة على الصفقة مقابل مبلغ مالي، من دون إدراك حقيقي للتبعات النفسية والجسدية المترتّبة عن نموّ طفلٍ لا يخصّها في داخل جسدها، فقد بدأت تشعُر بمشاعر الأمومة والتعلّق بالصغير، عبّرت عنها الممثلة المبدعة، أسماء أبو اليزيد، من دون كلام كثير. ... ذلك كله وأحداث تفصيلية كثيرة وشخصيات متنوعة جرى تقديمها ضمن إطار درامي تشويقي، يشدّ المشاهد حتى الحلقة الأخيرة، ويجعل مشاعره متأرجحةً بين التعاطف مع مأساة حسام (والرغبة في نجاحه بتعويض زوجته وتحقيق حلمها بالأمومة) وإدانته على تجرّؤه على رفض مصيره وتحدّي الإرادة الإلهية، واستغلال كل من حوله في سبيل تحقيق هدفه. وحين يتوهم حسام النجاح وتحقيق إرادته في إتمام الحمل في رحم الأم البديلة، يحمل المولود بين ذراعيه مبتهجاً بالنتيجة، غير أنه يسقط ميّتاً في اللحظة ذاتها.
أحسن كاتب النص حين ترك النهاية مفتوحة في مشهد عبقري، حين وقفت كل من الوالدتين، البديلة والأصيلة، أمام نافذة الحاضنة، فيما الرضيع الهجين يصرُخ بلا توقّف. تبادلت الوالدتان نظراتٍ حزينةً حائرة مرتبكة، تحكي الكثير، وتمهّد لجزءٍ ثانٍ لا يقلّ اختزالاً وتكثيفاً وإبداعاً في النص والإخراج والتمثيل البارع، ما يجعل العمل يحتلّ بجدارة موقعه في مقدّمة مسلسلات رمضان لهذا الموسم الحافل بمواضيع شتّى.