مفارقات في بلاد الألمان
تعرّفتُ في مدينة إلمسهورن الألمانية، إلى شاب سوري اسمه مصطفى سمعان. مسيحي، كانت والدته قد خلّفت عشر بنات، ونَذرت، إنْ جاءها ولد لتسمينَّهُ مصطفى، وقد جاء أخيراً، (مع الأسف، كما قال)، وأمه وفت بنذرها.. مصطفى ظريفٌ جداً، يبدأ برواية سالفة، وما إن يحكي منها جملتين أو ثلاثاً حتى ينفلت بالضحك، علماً أن هذه المنطقة من الحديث لا تُضحك، ولكن مخيلته تستبق الأحداث، حتى تصل إلى القفلة، فيضحك، ثم يفرمل بفمه قائلاً: إخ إخ كِكِكْ، ويتابع سرد السالفة.. ولتأكيد صحة كلامه يحلف بالطلاق، بالثلاثة، مع أن الطلاق عند المسيحيين نادر، وصعب، وحتى ولو كان وارد الحدوث، مصطفى عازب، يعني يطلّق مَن؟ ويستخدم مصطفى في حديثه محطات كلام، مثل: فهمت عليّ يا أبو الشباب؟ و: يخلي لي قلبك.. ويحلف بـ الذي جمعنا من غير ميعاد، مع أنه لا يوجد أحد هنا في ألمانيا يستقبل أحداً من دون ميعاد.
عليّ الطلاق بالتلاتة، قال مصطفى، لما يجي يوم السبت، موعد زيارة الجارين الألمانيين، راينر ولاورا، أتعوذ بالله من الشيطان. تصوّر، يا عمي أبو مرداس، مع أني حاصل على شهادة تعلم اللغة المتقدّمة (C1)، وأغرّد بالألمانية مثل البلابل، أذوق الأمرّين في إيصال أفكاري لهما. المشكلة، لو أردت أنا أن أستمع إلى مشاكلهما، لنمت في مكاني من شدّة الملل، لأن المواطن الألماني، بشكل عام، ما عنده مشاكل، وإن وجدت لا تعدو نزول المطر في أثناء مرافقته كلبَه في النزهة الصباحية.
في أحد مساءات السبت، روى مصطفى لجاريه الألمانيين حادثة جرت في بلدته السورية، ملخصُها أن أحد الرفاق البعثيين كتب تقريراً بحق رجل، فسُجن ثلاثة أشهر ونصف الشهر في فرع فلسطين. استوقفته لاورا مندهشة، وأعلمته (من دون أن تحلف بالطلاق طبعاً) أنها لم تفهم شيئاً؛ فأولاً، الحادثة جرت في سورية، فما علاقة فلسطين بالموضوع؟ وثانياً؛ هي تعرف أن أي مبادرة يقوم بها الموظف، إذا كانت تهدف إلى تطوير العمل، يجب أن تُرفق بـ "تقرير" مفصّل، يذيَّل بالاقتراحات اللازمة، وفي النهاية يحصل الموظف على مكافأة، بينما أنت، يا سيد مصطفى، تقول إنه كتب تقريراً فدخل السجن.. لماذا؟ هل كانت مقترحاته خاطئة وسبّبت ضرراً للعمل، مثلاً، فعوقب بالسجن؟ وكيف يتبنّى رؤساؤه مقترحات خاطئة؟ ألم ينتبهوا لها؟
أوضح مصطفى للسيدة لاورا أن الذي كتب التقرير لم يدخل السجن، بل الرجل المكتوب بحقه، وضحك.. كان على وشك أن يحلف لها بالطلاق على أنه لا يستطيع أن يُدخل معنى عبارة (يكتب تقريراً بحقه) في دماغها، فللحق عند الألمان مفهوم مختلف.. ولأجل الخروج من المأزق، قال لها إن التقرير عندنا لا علاقة له بالعمل، فهو تقرير "أمني". وهنا علق في براثن راينر الذي اندفع يتحدّث عن شيء اسمه "الأمن الصناعي"، وهو مجموعة قواعد وتعليمات، إذا طُبقت بشكل صحيح تُجنب العمالَ والآلات الأضرارَ المحتملة.
كاد مصطفى، وهو يحكي لي ما جرى، أن يقع على الأرض من شدة الضحك. قال لي: بتعرف، أي سيدي منلا أنت، أيش عملت؟ جَدَبْتُها وتوكلت على الله، وشرحت لهم أن التقرير الأمني اختراعٌ بعثي، كاتبُه لا يذهب إلى السجن، بل من يذهب هو "المكتوب بحقه"، وإذا كان الكاتب كاذباً أو مفترياً، تبقى المسألة "مثل رِجْلُه"، يحطّ رأسه وينام، ويشخر، بينما يوضع الرجل المكتوب بحقه التقرير في الدولاب، ويُضرب كالدواب.. قالت لاورا: قف مصطفى. هل قلتَ إنكم تضربون الدواب؟ غضب مصطفى، هذه المرّة، وقال لها: أقول لك يضربون الآدمي.. وليك، يا عزيزتي، أنا عندي سؤال لجنابك. هل تصدّقين إذا قلت لك إن صديقي الذي كتب بحقه التقرير مسيحي، والتقرير يتهمه بأنه من جماعة الإخوان المسلمين؟