من أين تبدأ "الديمقراطية"؟
نُشرت مقاطع متعدّدة على وسائط التواصل الاجتماعي على نطاق واسع في الأردن، وأخبار إعلامية تحوّلت إلى مادة للسخرية والتندّر على بعض الظواهر المتعلقة بانتخابات اتحادات الطلاب في المدارس، التي تحاكي الظواهر التي انتشرت في الانتخابات الأردنية، في الدورات الأخيرة، وفي مقدّمتها ما يسمّى "المال الأسود" و"شراء الأصوات" والنزعات الجهوية والعشائرية.
بالرغم من أنّ ذلك كلّه استُخدم نوعاً من التسلية والفكاهة، فإنّ الرسالة السياسية المبطّنة تتمثّل في أنّ محاولات التغيير والإصلاح التي تجري حالياً لتجذير الثقافة والممارسات الديمقراطية والعمل الحزبي لن تجدي أمام تلك الثقافات العميقة، ما ينقلنا من حيّز السخرية إلى المناقشة الموضوعية لإحدى أهم القضايا الرئيسية التي ترتبط بنهضة مجتمعاتنا وتعبيد المسار الديمقراطي فيها، فالديمقراطية ليست صندوق انتخاب، ولا تأتي فجأة، بل هي ثقافة وقيم سلوكيات وقناعات مرتبطة بصيرورة تاريخية.
ولعلّ نقطة البدء الحقيقية المطلوبة اليوم تتمثّل في المدارس والمناهج التعليمية، ومنها انتخابات اتحادات الطلاب في المدارس، التي من المفترض أن تبدأ الممارسات الديمقراطية السليمة منها، لتنتقل مع الجيل الجديد للمستقبل وتحكّم ثقافة "مواطني المستقبل" وقيمهم وسلوكهم السياسي، وعملية تجريم المال الأسود وشراء الأصوات وتعريف الحقوق والواجبات تبدأ أيضاً من الصفوف الأولى في المدارس، كي تكون عقيدة في قلوب الطلاب وعقولهم، لا تتغير ولا تتبدل مع مرور الوقت.
على الجهة المقابلة، انتهى معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع صندوق الملك عبد الله للتنمية والمركز الوطني للمناهج (بالتنسيق مع الهيئة المستقلة للانتخاب ووزارة التربية والتعليم) من عمليات تدريب مشرفي المواد الاجتماعية على المناهج الإضافية الجديدة التي وضعت للصفوف العاشر والحادي عشر في المدارس تحت عنوان "الديمقراطية والمشاركة في الحياة العامة"، وقد تناولت هذه الكتب بأسلوبٍ عصريٍّ وحواريٍّ ومتقدّم قضايا الديمقراطية والمواطنة والهوية الوطنية والمشاركة في العمل العام ومفهوم الأحزاب وأهمية الأحزاب ودورها المنشود في الحياة العامة وعملية الانتخاب وغيرها من مفاهيم وقيم أساسية تقوم عليها الممارسة الديمقراطية، وأضيفت أيضاً دروس غير تقليدية في المواد، مثل السياسة والأخلاق والآفاق المستقبلية لتكريس مفاهيم عديدة، مثل النزاهة العامة وحرمة المال العام والواجبات الوطنية.
تعتبر هذه الكتب الجديدة مقدّمة لعملية تحويل كبرى لتطوير المناهج، لتكون العملية التربوية والتعليمية حاضنة حقيقية لمثل هذه المفاهيم والقيم الرئيسية. وبالتالي، إذا كانت ممارساتٌ محزنة قد وقعت في انتخابات الطلاب في المدارس، فإنّها قد تكون متواضعةً ومحدودة، مقارنة بممارسات أخرى لتكريس المفهوم الديمقراطي، لكنّ الأهم أنّ تلك الممارسات المنبوذة تعكس النموذج الواقعي الراهن، لا المسار الجديد الذي انطلق للتو، وتزاوج مع عملية تحديث المناهج التعليمية والتربوية بالتوازي والتزامن.
نشرت، قبل خمسة أعوام، في "العربي الجديد" مقالاً بعنوان "ثورة دورات المياه" تعقيباً على تقرير عن وزارة الصحة الأردنية بعد زيارة مائة مدرسة في عمّان، تبين فيها أنّ دورات المياه في أغلب المدارس (وأزعم كلّ) لا تصلح للاستعمال (وأضيف البشري). وأشرتُ في ذلك المقال إلى أنّ الطفل الذي يقبل أن يتعايش مع دورة مياه قذرة، أو أن يحرم نفسه حقّه الأساسي في الدخول إليها في حرم مدرسته، على حساب راحته وصورة المدرسة في ذهنه، وشعوره بالسعادة والراحة في يومه، هو (ذلك الطفل) يقبل غداً بالتنازل عن حقوقه الأخرى، وبغياب النظافة في المرافق الحكومية والسياحية، والتصالح مع الخطأ والأخطاء.
لماذا؟ لأنّ معلم المدرسة، الذي كان يشاهد ذلك، وغالباً دورة المياه التي يذهب إليها ليست أفضل حالاً، لم يعلّمه كيف يرفض ذلك، بل علّمه أنّه أمر طبيعي يا بني، ولم لا؟ ستتعايش مع كوارث أخرى كثيرة. وكذلك الحال، مدير المدرسة الذي لم يشعر بأنّ وجود دورات مياه غير صالحة للاستخدام البشري في مدرسته كارثة بمعنى الكلمة، ولم يقدّم استقالته، هو نموذجٌ آخر ماثلٌ أمامنا في فشلنا الإداري والثقافي والأخلاقي.
نعم، يبدأ تكريس الديمقراطية في بلادنا من المدرسة ومن الصفوف الأولى ومن الحقوق الإنسانية البشرية الطبيعية، عندما لا يخجل ولا يتردّد القادة والمسؤولون والوزراء من وضع أبنائهم في مدارس الحكومة وهم مطمئنون إلى أنّهم في بيئة آمنة، عندما نقول إنّ مشوار الديمقراطية الحقيقية وليست الشكلية بدأ فعلاً.