من يوقف آلة القتل؟
كان الشاعر الكبير صلاح عبد الله، رحمه الله، كفيفا مُدهشا في قدراته البصرية. سألته عن ذلك: فأجاب ببساطة: درّبت بقية الحواسّ، فأبصرت بها... كان صلاح يعرف كل شيء عن محدثه من صوته، وزنه، لون بشرته، طباعه الأساسية، لكن واقعة لا أنساها حدثت حين ذهبنا، مشيا من ميدان السيدة عائشة، لنصلي الجمعة في جامع السلطان حسن، وبمجرّد اقترابنا من الجامع الكبير، وجدتُه يتنفس بـ"صوت"، ويملأ صدره، بـ"نهم"، ويقول: الله الله.. وصلنا.. قلت: كيف عرفت؟ فأجاب بجد: شممتُ الحوائط، ثم في سخريةٍ لا تخلو من جد: هذه أشياءُ لا يشعر بها أمثالك من المبصرين والعياذ بالله، لهذه الحوائط رائحة مختلفة، شخصية، لم أزُر الجامع منذ سنين، ولا أعرف رائحته، مثل أماكن أخرى، أحفظ رائحتها عن ظهر قلب، لكن للقدامة رائحة، للتاريخ رائحة، للمكان الذي تمارس فيه الشعائر رائحة، صوت يسمعه الأنف، شخصية أقوى من أن يحجبها العمى.
في كتابه "القاهرة مدينة ألف ليلة وليلة" يتحدّث المستشرق أولج فولكف في ولع وعذوبة عن القاهرة، منذ الفتح العربي وحتى مطلع سبعينيات القرن الماضي. ويبدأ، في رصد شخصيتها من الأهرام "تلك الصروح الهائلة التي تعبّر عن فكرة الخلود في عالم سماوي"، ثم قلعة صلاح الدين التي يراها مثل "قائد حربي مختال يشرف على جنوده الذين تؤلمهم منائر العاصمة، فترسم لنا صورة المماليك، بعمائمهم وثيابهم الفضفاضة، وهم منطلقون على صهوات جيادهم المطهّمة، وفي أيديهم سيوفهم مشرعة، ينعكس عليها ضياء الشمس". يقول فولكف: "إذا ما تساءلنا عما هو هذا السحر المختص لمدينة القاهرة؟ لوجدنا أن الإجابة الدقيقة عسيرة، لذا فكل ما يمكن قوله أن أسرد بضع عناصر أولها تراث المدينة الثري الذي يشيع في روح الإنسان النشوى، وهذا التراث لا يتمثل فقط في الأبنية العتيقة، التي شيدت على مدار خمسة آلاف عام، لكن في الشواهد الدالة على حضارات عدة متباينة، شكل كل منها وجه المدينة بأسلوبه، وخلف لنا آثارا تشهد بذلك".
يحاول فولكف أن يطوف حول هذه الشواهد والآثار لمزيد من اكتشاف أسباب سحر القاهرة الذي انتقل إلى أهلها، وأثر في طباعهم، وشخصيتهم، كما يقول، فيمرّ على الجوامع والمآذن والقباب والأضرحة والكنائس ونهر النيل وغيرها من معالم المدينة العتيقة، ولكن لا يفوته أن يتحدث عن "مدينة الموتى"، أو القرافة، ومدى تعبيرها عن شخصية المكان، وتصوّرات ساكنيه، ومعتقداتهم الدينية، وفلسفة الموت لديهم، ومدى اختلافها عن نظيرتها الأوروبية، ويقول في تكثيف: "ولا تشبه تلك الجبانات (جبانات القاهرة التاريخية) الجبانات الأوروبية، فلم تكن الأسوار تحيط بجبانات المسلمين، تعزلها عن العالم المحيط، فليس الموت هنا إلا امتدادا للحياة، الميت لا يغادر أرض الأحياء، لكنه يغير فقط سكنه، ولهذا تمضي الحياة بين القبور، فيعبر بينها المارة، ويلعب حولها الأطفال، وتتصاعد فيها الضوضاء، كأحد أحياء المدينة المزدحمة، وهذا يفسّر لنا سبب فخامة مقابر المماليك".
وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في يونيو/ حزيران الماضي، بتشكيل لجنة من "المختصّين"، برئاسة رئيس الوزراء، لتقييم موقف نقل المقابر في منطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي. وطالب تقرير اللجنة، بعد دراسة المشكل من جوانبه كافة، بالإيقاف الفوري لأعمال الإزالة والهدم، خصوصا أن المشروعات المزمع إقامتها مكان المقابر بلا جدوى، ولم تُدرس جيدا (جزء من سياسات الدولة)، ولا توفر، مروريا، سوى دقيقتين. وقدّمت اللجنة حلولا لكل المشكلات المتعلقة بتشجير منطقة المقابر، والمياه الجوفية، والصرف الصحي، وقدّمت أيضا مقترحات عملية للحفاظ على المقابر التاريخية وتحويلها إلى مزاراتٍ دينية وسياحية تدرّ الملايين، كما يحدُث في كل مكان في العالم. رغم ذلك، تم تهميش اللجنة، والتعامل مع قراراتها، بوصفها غير ملزمة، وفق ما نشره موقع "باب مصر"، 27 أغسطس/ آب الجاري، ومن ثم الاستمرار في أعمال إزالة المقابر التاريخية، ومحو شخصية المدينة، ومعها تاريخ من "لحم ودم"، وحاضر من دم فحسب.