مونديال معاوية وملك الروم
كان للعرب قديما مونديالات لم تبلغ منزلة مونديالات الرومان والإغريق. وقبل أن أذكر بعضها، وجب عليَّ ذكر وحدة قياس قامةٍ ابتدعها العرب لم يأتِ بها أحد من العالمين، وكانوا يقيسون بآلاتٍ عدة، إذا ذكرتها طال المطال وطوّل أكثر من مطال العاشق بحبيبته في أغنية "يا مال الشام"، والآلة هي: تقبيل الظعينة على الهودج، فقالوا عن الطويل: مقبّل الظعن، وكان أشهرهم العباس بن عبد المطلب. لكن والحق يقال، والباطل يزال، أنَّ العرب لم يبلغوا شأو الغرب في الكَلف بالرياضة الذين جعلوا لها الحلبات وبنوا الكولسيوم الذي انتهى في أيامنا إلى حلبات الثيران ومهرجانات الرياضة التي تقودها شركات نخاسةٍ دوليةٍ مقنعة، تتاجر بالفرق الرياضية واللاعبين، وجعلوها مدار حيواتهم. أما مونديال العرب فهو مونديال القوافي وتسجيل الأهداف في شباك المعاني. وكان لهم في الرياضة حظٌ وافر، ومجد ظافر، من غير إفراطٍ أو تفريط، أشهرها مونديال داحس والغبراء الذي انتهى بحرب، وكان سباقا بين جوادين. وكان من العرب عداءون يسبقون الغزال على أقوال، مثل الشنفرى الشاعر الذي ضرب به المثل، وتأبّط شرا، وابن البراق، والسليك بن سلكة، وأبو خراش الهذلي، وهو من أسرة من العدّائين، ومحطّمي الأرقام القياسية.
وكان سباق بين النوق في العهد النبوي، وقد سبقت ناقة عليه السلام ثم سُبقت فأقرَّ بالسبق، وهوّن على صحابته ما وجدوه، فكانوا يجدون كما نجد، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وما رفع الله شيئا إلا وضعه. وفي أيام معاوية، بادر ملك الروم إلى إرسال رسول إلى معاوية، يتحدّاه فقال: "إنَّ الملوك قبلك كانت تراسل الملوك منّا، ويجتهد بعضهم في أن يغرب (يأتي بالغريب وهو بمعنى التحدّي) على بعض، أفتأذن في ذلك"؟ فأذن له، فوجّه إليه ملك الروم برجلين: أحدهما طويلٌ جسيمٌ، والآخر أيدٌ، فقال معاوية لعمرو بن العاص: أمّا الطويل فقد أصبنا كفأه، وهو قيس بن سعد بن عبادة. وأمّا الآخر الأيد فقد احتجنا إلى رأيك فيه. فقال عمرو: ها هنا رجلان، كلاهما إليك بغيضٌ (من المعارضة السياسية): محمد بن الحنفيّة، وعبد الله بن الزّبير، فقال معاوية: من هو أقرب إلينا على حالٍ. فما (إن) دخل الرجلان (حتى) وجّه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيسٌ (ابن سيد الخزرج)، فلما مثُل بين يدي معاوية نزع سراويله فرمى بها إلى العلج، فلبسها، فنالت ثندوته (هالة سوداء حول حلمة الصدر)، فأطرق مغلوباً، فحُدِّثت (الراوي) أنَّ قيساً ليمَ في ذلك، فقيل له: لم تبذّلت هذا التّبذّل بحضرة معاوية، هلاّ وجّهت إلى غيرها! فقال أبياتا نذكر منها بيتاً:
بذّ جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وجسمٌ به أعلو الرّجال مديد
ثم وجّه إلى محمد بن الحنفيّة، فدخل، فخُبّر بما دُعي له، فقال: فقولوا له (مترجمين) إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القائم وأنا القاعد. فاختار الروميّ الجلوس، فأقامه محمدٌ، وعجز الروميّ عن إقامته، فانصرفا مغلوبين.
الفوائد من هذه القصة كثيرة؛ أولها أنَّ الحياة مغالبة، إمّا في الحرب بالسيف أو في السلم بالحيف. والثانية أنَّ ملك الروم هو الذي بادر إلى المنافرة الرياضية فهي ملعبهم. والثالثة أنَّ ملك الروم اكتفى بالخبر سماعا من غير شهود وفيه متعةٌ وبلاغ. والرابعة أنَّ ملك المسلمين لم يحتج إلى النفير في الأمة فقد كفي بالمنازلة من السادات والأشراف. والخامسة أنَّ معاوية لم يفرّق بين موالاةٍ ومعارضة في مصارعة الروم ومصاولتهم. والسادسة أنَّ محمدا بن الحنفية لم يقل شعرا كعادة العرب، وقول الشعر عند العرب يعادل تعليق البطاقة التعريفية في أيامنا. والسابعة أنَّ المبادرة الرياضية، وإن جاءت من ملك الروم فإنَّ طريقة المصارعة اقترحها العرب. والثامنة أنَّ الحرب متنٌ والرياضة هامشٌ، وليس كما صارت في أيامنا (أسدٌ في الرياضة وفي الحروب نعامة). والتاسعة أنَّ معاوية الذي استجاب للدعوة الرومية لم يعلن اليوم التالي عطلةً رسمية. والعاشرة أنَّ قيسا فاخر بنفسه على الخليفة معاوية، ولم يجد الخليفة في نفسه منها، والحادية عشرة أنهم كسروا عين ملك العلوج، لكن أين سالم أخو شادي، أين الزير سالم أبو ليلى المهلهل؟