25 اغسطس 2024
مَدَّاح الأسد والقذافي وأسد السنّة
كان أجدادُنا العرب، أيام زمان، إذا نبغ في قبيلتهم شاعرٌ، ينبسطون ويفرحون، ويجتمعون في ساحة القبيلة، ويرقصون و(يسحّجون)، والنساء يمددن رؤوسهن خارج الخيام، ويضربن بخمرهن على جيوبهن، ويزغردن، ويأتي إخوةُ العرب: أبو فلان وأبو علان وأبو فليتان، وكل واحدٍ منهم يسحب خروفاً مسكيناً من قرنه، ويبطحه على الصخرة التي يعتليها الشاعرُ النابغة، ويذبحه من الأذُن إلى الأذن. ومع لحظة إزهاق أرواح الخواريف، تحتدم الرقصات والسحجات مجدّداً، هذا كله لأن القبيلة، اعتباراً من هاتيك اللحظة، قد محتْ جزءاً صغيراً من أُمِّيَّتِها، وأصبح يحقّ لها أن تثق بنفسها، وتطمئن لوجودها، وأن تبعث رسائل نارية إلى القبائل الأخرى، وتقول لها ما معناه: أي نعم، صار عندنا شاعر، وصرنا مستعدّين لأن نقارعكم، ونُزْهَى عليكم، ونخترع لأنفسنا أنساباً وفضائل ومآثر أنزل الله بها سلطاناً؛ وأخرى لم يُنزل الله بها من سلطان. كنا، قبل ولادة هذا الشاعر، نريد أن نستعيد سلّتنا من دون عنب، ونمشي في فيء خيامنا ونقول (يا رب سترك)، وكان الشاطر من القبائل الأخرى يتعالى علينا، ويرسل لنا المآلك (الرسائل) أن سَلِّمُوا تَسْلَمُوا،.. وبعضهم يغزونا من دون سابق إنذار، فيستبيح مالَنا وحلالنا وأمهاتِ أبنائنا؛ فأصبحنا، الآن، بعد ميلاد شاعرنا النّحرير، نتحدّث بالفم الملآن، ونشدو ونترنم (إذا بلغ الفطام لنا صبيٌّ، تخر له الجبابر ساجدينا).. ومع أنكم تعرفون، ونحن نعرف، أن منطقتنا صحراويةٌ قاحلة، وأن أكثر شيء متوفر فيها هو "بعرُ الآرام"، وأن الواحد منا يولد ويعيش ويموت ولا يرى بحراً، إلا أننا نستطيع أن نجزم، الآن، أن لدينا مصانع للسفن (فابريكا)، فإذا ما قُرعت القناة بالقناة، واشتبك الصارمُ بالصارم، سنكون مستعدّين لأن نهاجم عدونا البعيد في عقر داره، مالئين وجهَ البحر بالسفن والـ فرقاطات والـ غواصات.
هذا ما كان من شأن أجدادنا، وأما نحن، فيجدر بنا ألا نتأخر في الاحتفال بالشاعر الوليد، فبمجرد ما نعلم بمغادرته رحم والدته، وهو يصيح (واع.. ويع)، يجب أن نعمّم الخبر على الجرايد، و"السوشيال ميديا"، وننشر صورته على "فيسبوك"، ويمكن أن نعلن عنه بمكبرات الصوت، ونقيم له احتفالاً في قاعة أحد الفنادق من ذات خمس النجوم، فنُعَيِّش ونُهَيِّص ونغني هابي بيرثداي، وننفخ الشموع، ونناوله السكين لكي يقطع الكاتو والكيك، ولا بأس من أن نستقدم رقاصةً تهز خصرها ببراعة، ونستمتع بالفرجة على رقصها، وننادي على العمال أن يشغلوا لنا جهاز التبريد، كما في السينما أيام زمان، فنقول (هَوَّاية)، وطبعاً نصوّر الحفل بالكاميرات التلفزيونية، أو بكاميرات الموبايل.. ثم نُحَمِّل مقاطع الفيديو الذي يحمل عنوان (ولادة الشاعر) إلى "تويتر" و"يوتيوب" و"إنستغرام"، ونجلس لنراقب عدد مشاهدي ذلك الفيديو العظيم.
السبب في دعوتي إلى الاحتفالية المبكرة هو أن شعراءنا المعاصرين أقوى من شعراء القبائل القديمة، وأذكى، وأكثر ثقافةً وعلماً، ولئن كان الشاعر القديم يفخر، ويهجو، ويمدح، ويرثي، فإن بعض شعرائنا المعاصرين يحاربون على جبهاتٍ لو تخيلها الأقدمون لوَلَّتْ قرائحُهم ومواهبُهم الأدبار، فواحدٌ منهم يختص بالحكمة والمواعظ، وثانٍ يكتب في الغزل مع أنه في سن الاحترام التاريخي، وثالثٌ يبعث القصائد إلى الأمراء بمناسبة قدوم مواليدهم الذكور، ثم في حفلات ختانهم، ورابع يمتدح البوط (الحذاء) الذي يرتديه العسكري الذي يجنّده الولي الفقيه العَلْماني لمحاربة الإرهاب الوهابي التكفيري، وخامس متخصصٌ بمديح الرؤساء فقط؛ بدليل أنه كان يمدح القائد حافظ الأسد مفجّر الحركة التصحيحية المجيدة، وأخاه قائد ثورة الفاتح من سبتمبر، معمر القذافي، وكان يهجو النظام العراقي، اليميني، العفن، ورئيسه المتغطرس. ولكنه، بعد الثورة، هداه الله تعالى، وأصبح يكتب الشعر الذي يمجّد الشهداء والأنبياء والصحابة الكرام، والرئيس الشهيد صدام حسين، أسد السُّنّة، حامي حمى الأمة الإسلامية، وأميرَ المؤمنين أبا محمد الجولاني، حفظه الله، وأيّده بنصر من لدنه.