نبوغ محمد سلطان
قلما تخلو سيرة فنان، أو فنانة، من حكاية جمعته مع هَرَم الموسيقى الرابع، محمد عبد الوهاب، ومنهم فنّانون لبنانيون وسوريون وجزائريون زاروا مصر أيام العصر الذهبي للأغنية.
يروي الموسيقار الكبير، محمد سلطان، الذي رحل قبل أيام، عن 85 سنة، أنه اعتاد، عندما كان في الثانية عشرة من عمره، أن يتمشّى، يومياً، على شاطئ البحر (في الإسكندرية)، يُرهف السمع، وهو يمشي، إلى صوت الأمواج، فيكتشف فيها موسيقى زاخرة، وينتهي به المشي إلى صخرةٍ مقابلةٍ للفيلا التي يصيّف فيها عبد الوهاب، يجلس عليها، وينتظره حتى يخرج ليمارس رياضة المشي على الشرفة، كالمعتاد. ويتساءل الفتى: يا تُرى، بماذا يفكّر هذا العبقري الآن؟ وبلحن أي أغنية يدندن؟ ومن المطرب المحظوظ الذي سيغني لحنه القادم؟ إلى أن خطرت له، ذات يوم، فكرة شجاعة، هرع على إثرها إلى البيت، وفتح دليل الهاتف، وصار يقلّب فيه، حتى عثر على رقم عبد الوهاب، فأدار القرص، ووضع العود في حضنه، وعندما فتح عبد الوهاب الخط، راح يعزف له لحن إحدى الأغنيات، ولكن الأستاذ أغلق الخط، فأسقط في يد الفتى، وخرج لا يلوي على شيء، حتى وصل إلى مكتبة تبيع قرطاسية، اشترى منها ورقة، وقلماً، ومغلفاً، وجلس القرفصاء، وكتب له: يا أستاذنا، أنا اسمي محمد سلطان، بيتنا قريب من فيلتك، ده أنا بعزف، وبغني، وبحفظ أغانيك، وبحلم أني أشوفك، وهذا رقم تلفون منزلنا، أوعدني إنك تتصل. وأوصل الرسالة إلى الفيلا، سلّمها للحارس، وعاد إلى البيت، وبعد قليل شاهد والدته تتكلم على الهاتف، وقالت له: يا بني يا محمد، ده فيه راجل بيقول اسمه محمد عبد الوهاب، يطلبك. قفز إلى الهاتف، وأخذ السماعة، وأعاد على الأستاذ ما كتبه في الرسالة، فردّ الأستاذ: طيب تعالَ لي. وبسرعة، وعبطة، راح "يتكعبل" على السلم، وسط دهشة والدته وخشيتها من أن يكون قد أصابه شيء، وذهب جرياً إلى فيلا الأستاذ، فوجده وقد ارتدى ثياب الخروج، مع الكرفتة الحمرا، ووقف ينتظر وصوله عند الباب. سأله: معاك عربية؟ فخجل الولد الذي لا يمتلك سيارة بالطبع. قال: طيب وقّف أي سيارة أجرة. فأوقف سيارة، وهو لا يدري إن كانت القروش القليلة التي يمتلكها تكفي لأجرتها، ولكنها كانت كافية، لأن المشوار قريب. المهم، عندما فتحت والدة محمد باب البيت، ورأت هذا الضيف مع ولدها الصغير، بهتت، وقالت: أستاذ محمد عبد الوهاب؟ يا خبر أبيض. ده، إحنا زارنا النبي، ودعته للجلوس، وأحضرت له شربات التوت، والملبس، والشوكولاته، وجلس الأستاذ يستمع إلى الفتى وهو يعزف، ويغني "مين عذّبك، بتخلصو مني"، وسمع منه أغنيات أخرى، بعزف جيد، وأداء جميل. وأسمعه، كذلك، أغنية من تلحينه، ألفها رجل فقير ولكنه مبدع، يقول مطلعها: "الحب ناداني، والشوق خلاني، أرجع لك تاني". وبقي الفتى يعزف، والأستاذ يصغي باستمتاع. وخلال وقفة قصيرة، وبعدما أيقنت الوالدة أن الأستاذ راضٍ عن موهبة ابنها، قالت: أنا دايماً بشجعه، وبعطيه فلوس زيادة، علشان يطور هوايته، بقول لروحي إن الواحد يا إما يكون ملحن زي الأستاذ عبد الوهاب، أو رياض السنباطي، يا إما بلاش.
واستمرّت هذه الجلسة حتى عاد اليوزباشي (النقيب) سلطان من عمله، ودهش، هو الآخر، من وجود عبد الوهاب في البيت، سلّم عليه، وجلس وسمع منه اعترافاً بموهبة الفتى محمد، وقال له: بصّ يا سلطان بيه، الموسيقى تحتاج لعلم، وأنا بشوف إنك ترسل ابنك في المستقبل إلى دولة أوروبية ليدرس علوم الموسيقى، لأني في بلادنا دية، ومع الأسف، اللي يفشل بدراسته، يروح عالموسيقى. يعني لازم ننتظر الواحد حتى يفشل، ونكسب موسيقي جديد!
وأصبح عبد الوهاب، منذئذ، الصديق، والأستاذ، والمشجّع، لمحمد سلطان، رحمهما الله.