نيابةً عن أمةٍ بحالها
يأخذكِ ما يحدث في فلسطين الحبيبة بعيداً عن نفسك، تضعين أحزانكِ الشخصية على ثقلها جانباً، تتجاهلين مخاوفك وكوابيسك والرعب الدائم الذي ينغّص عليك عيشك، وأنت تلحّين على أحبتك بضرورة أخذ المطعوم. تنسين أمر كورونا اللعين، ولا يعود موعد جرعتك الثانية بالأهمية ذاتها. تتنازلين عن أحلامك بالسفر إلى أبعد نقطةٍ ممكنة، هرباً من كلّ شيء. وتتأهب روحك من جديد، وبكل ما أوتيت من طاقة على الرجاء، كي تقف مع شعب فلسطين وهو يواجه، أعزل وحيداً، غطرسة المحتل الآثم المجرم ووحشيته، وهو يواصل همجيته وبربريته، مستعيناً بقوى الشر (وهي كثيرة) كي يطرد أناساً مسالمين من بيوتهم في حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة، مدججاً بوثائق مزورة وأكاذيب، وفجور التباكي أمام الرأي العام العالمي، وهو يلعب برداءة وركاكة دور الضحية المغلوب على أمرها، في ظلّ صمتٍ مريبٍ ومعيب، من معظم الأنظمة العربية المذعورة العاجزة عن اتخاذ مواقف واضحة شجاعة، منسجمة مع تطلعات شعوبها في نصرة الأشقاء الذين طال عذابهم، غير أن لا أحد يتوقع، أو ينتظر، منها تجييش الجيوش وإعلان الغضب الساطع غير الآتي من غرف اجتماعاتهم المغلقة على ذلّهم وعارهم.
الأكثر قبحاً من ذلك الصمت القبيح الذي يبعث على الغثيان موقف أولئك الأوغاد المطبّعين الذين يجهلون معنى الشرف والكرامة والحق، فيصطفون عبر منابرهم المأجورة، بصفاقةٍ ونذالة، إلى جانب المعتدي القاتل، مرتكب المجازر، ويوجهون اللوم إلى أبناء شعبٍ يمارس حقه في الدفاع المشروع عن النفس الذي تقرّه مواثيق حقوق الإنسان، وعن وجوده على أرض وطنه المسلوبة ظلماً وبهتاناً وتآمراً... أيّ وقاحة هذه، أيّ جبن، أيّ نذالة، أيّ زمن أغبر وصلت إليه العروبة؟ وتظل أدوات الأفراد عاجزةً لا تتعدّى كلمة نابعة من الوجدان المتورّط والضمير الحي المساند لشعب فلسطين الحر وأبنائه وبناته من المعتقلين الذين يواجهون عدسات الكاميرات بابتساماتٍ مضيئة، يطمئنون بها ذويهم أنهم بخير، وأنّهم غير قابلين للهزيمة والانكسار، على الرغم من كلّ شيء. لقطات رائعة لهم تبثها وسائل الإعلام، ومقاطع فيديو لنساءٍ شجاعاتٍ، مقدامات مدافعات عن بيوتهن بالأظافر. يصفهن أحد الجهلاء من تجار الدين، في تغريدةٍ بائسة، بالمسترجلات المزاحمات الرجال في مواجهة العدو، ويحثهن على العودة إلى بيوتهن، لأنّهن غير مكلفات شرعاً بالجهاد! لا يدرك هذا الغبي أنّ تلكم النسوة البطلات، الطاهرات المتصدّيات لقوى الظلم والطغيان، يشرّفن أمثاله من الجبناء المتوارين خلف الشاشات، يبثون فتاويهم الباطلة، وينظّرون، بكل خسّةٍ، في حضرة الدم.
ويهاجم "داعيةٌ" متصهين مشبوه مأجور نصرة شعب غزة أهلهم في القدس، ويحذّرهم من مغبة ذلك، محذراً ومتوعداً إياهم من رد الصهاينة المزلزل، فيعيد المجرم النازي، أفيخاي، الناطق باسم الجيش الإسرائيلي المحتل، التغريدة الكريهة باعتبارها كلمة حق! وينال الخائن ما يستحقه من التحقير والإهانة، لكنّ أمثاله من الأذناب يفتقدون الإحساس بالكرامة، ولا يكترثون سوى برضى أسيادهم ومقدار أرصدتهم، ولا يتوانون عن إهدار ماء وجوههم، فيستحقون الخزي والعار. يظلون حتى لو كثر عددهم وأفسحت لهم القنوات الضالة منابرها الملوثة، يظلون أصواتاً ناشزةً خارجةً عن وجدان أمة حرة عزيزة كريمة، أصواتاً منكرة ونكرة، لا تعبر إلّا عن أمثالها من عديمي الضمير والأخلاق.
هؤلاء الجبناء الذين ينبحون لصالح من يطعم بطونهم الجرباء الشرهة، أسرى منافعهم ومصالحهم الشخصية الضيقة الدنيئة، لن يغبّروا، مهما علا نباحهم، على حذاء فتى فلسطيني، يركض في شوارع فلسطين خلف نعش والده الشهيد، ويصرخ بأعلى صوته المذبوح حزناً: "الله يسهّل عليك يابا" قبل أن ينضم من جديد إلى صفوف الرفاق المدافعين عن الوطن نيابةً عن أمة بحالها.