هدية لزوجتي
هي أشياء صغيرة، لكنها تحمل معاني كبيرة، ولوقعها في القلب أثر أكثر من وقع فرحته بجوهرة ثمينة، فهذه اللمسات التي تصل إليك، ذات لحظة، تفعل السحر في قلبك وعواطفك؛ لأنها صادقة، ونبعت من إنسان صادق، ولأن صاحبها ربما أعطاك كلَّ ما يملك، وهو عند الآخرين هيِّن، وعنده عظيم، وفي قلبك سيقع في حناياه، وستمتصّه روحك، فيزهر فيها الحبُّ أكثر، وليس أعظم من صدق المشاعر، في وقت تحوَّلت فيه علاقاتنا التي تغذِّي أرواحنا إلى تأدية واجب. في عام 2007، كنت أتلقّى هدية صغيرة من زوجة بوَّاب العمارة التي أقمت فيها في الإسكندرية. قبل سفري إلى بلدي بيوم، جاءت بالهدية خلسة، وقدَّمتها إليّ، وكانت "منديل بأوية"، وهو الغطاء الذي تستخدمه نساء المناطق الشعبية للرأس. قالت لي: هذا من جهازي عندما تزوّجت، وهو هدية لك، وأرجو ألا يعلم زوجي به، فهو سيعاقبني؛ لأنه حريص على أن أحتفظ بكلِّ ما اشتريت من ملابس للزواج، لعدَّة سنوات مقبلة، فهو لن يستطيع أن يشتري لي شيئاً، وقد أحببت أن أهديه إليك، مقابل ما قدَّمتِه لي، ولطفلتي الصغيرة، خلال إقامتك القصيرة.
كانت فترة تعارف قصيرة، وتعاطف كبير مع شابّة سمراء نحيلة، جاءت من قريتها إلى المدينة؛ بحثاً عن عمل مع زوجها، وقد أنجبت طفلتها الأولى، في غرفة صغيرة في "بير السلم". كنت أنقدها مبلغاً جيّداً، مقابل كلِّ خدمة تقدِّمها لي، مثل شراء حاجيات البيت. وهكذا استشعرت القروية الفقيرة شعوري نحوها، وقرّرت أن تعبِّر عنه بهذه الهدية التي هي أغلى ما تملك، وقد احتفظت بها سنوات طويلة، في أحد أدراجي. وكلما رأيتها سرحت، وتساءلت في نفسي عن أخبارها، ودعوت الله أن يرزقها، ولا أنسى أن أتلمس هذا المنديل المزركش، كشيء ثمين أحرص عليه، لأن صاحبته قدَّمته لي بمشاعر صادقة، نابعة من قلبها الأبيض.
كثيرون يقرّرون أن يقدِّموا الهدايا، خصوصاً في المناسبات. وترى الهدايا المغلَّفة، التي يتفنَّن أصحابها في تغليفها، بل هناك محالّ مخصَّصة لتغليف الهدايا، ويحصل العاملون فيها على دوراتٍ متخصصة، في هذا الفن، وتدرُّ أرباحاً على أصحابها. ويقصد زوجٌ، مثلاً، أحد تلك المحالّ، حاملاً هدية لزوجته، ويطلب منهم المبالغة في تزيينها وزخرفة غلافها، ونثر العبارات المسجوعة على جوانب الصندوق، أو الغلاف، ثم يحملها إلى زوجته، وربما فعل ذلك، وهو يطبِّق نظريةً تنفي صِدْق النيَّات من هدايا الأزواج لزوجاتهم، التي غالباً ما تخفي خيانتهم. وقد اعترف أحدهم بأنه كلما تعرَّف بامرأة أخرى كان يقدِّم هدية ثمينة لزوجته؛ لكي ينام مطمئنّاً إلى أنه استطاع أن يغشِّي بصرها عن ملاحقته، وتتبُّعه؛ لأنها انشغلت بالهدية، وعرضها على صديقاتها وقريباتها وتفحُّصها، واختيار ما يناسبها من أكسسوارات مكمِّلة، على سبيل المثال.
نغرق في التفاصيل التكميلية التي هي هدايا يتفنَّن باعتها في ترويجها؛ لكي نحملها لأحبتنا، ولأقرب المقرَّبين لنا، في المناسبات، مثل قدوم شهر رمضان، مرَّة في العام، أو العيدين، أو حتى مناسبة يوم الأم، ونحمل هذه الهدايا لمن لهم حقُّ الوصل والرعاية والوداد، ونضعها أمامهم؛ لكي نعوِّض تقصيرنا تجاههم، ولكي نُشعرهم بأنهم في قائمة أولوياتنا. ولكن الحقيقة أن الآباء والأمهات، مثلاً، لا تنطلي عليهم خدعة الهدية الثمينة؛ لأنهم وصلوا إلى سنِّ الزهد في الحياة، وأصبحوا بحاجة لوجود من أفنوا أعمارهم من أجلهم، فهم يبحثون عنهم؛ فيجدونهم مشغولين بحياتهم وبمشكلاتهم الشخصية، وتفقُّدُ أحوال والديهم في ذيل قائمة اهتماماتهم.
مناسبة شهر رمضان مثال على تحويل موسم روحي إلى مناسبة يجري الاحتفال بها بهدايا مغلَّفة، تحمل شعارات دينية، مثل المسابح والبخور والعطور الزيتية وسجَّادات الصلاة وأعواد السِّوَاك. مناسبة لكي نرسل الهدايا الباردة التي نكذِّب من خلالها، بكلِّ صدق، على من قصَّرنا بحقِّهم، طوال العام. ولعل ذريعة انتشار وباء كورونا، عافانا الله وإيَّاكم منه، ساهمت كثيراً؛ لكي نضيف الملح إلى هذا الكذب.