هذا السواد الحالك
بفارقٍ زمنيٍّ لم يتجاوز الثماني وأربعين ساعة، تكرّرت جريمة نحر الطالبة نيرة أشرف، أمام جامعة المنصورة في مصر على مرأى الجميع بطعنات سكّين متتالية، في تفاصيل متشابهة من حيث الدافع المزعوم، أقدم مجرمٌ جبان، منزوع الذمة والضمير، على قتل طالبة التمريض في جامعة العلوم التطبيقية في عمّان، إيمان ارشيد، بعد خروجها من قاعة الامتحان رمياً بالرصاص. استقرّت واحدة من خمس رصاصات استهدفتها في رأس الصبية الجميلة أدّت إلى وفاتها، ما أثار موجة سخط وغضب في أوساط الأردنيين، وضجت مواقع التواصل بأشدّ عبارات التنديد والإدانة. لم يخل الأمر، مثل العادة، من تعليقات تافهة جاهلة تلمز من قناة الضحية، وتلتمس الأعذار الواهية للقاتل الهارب من وجه العدالة (حتى كتابة هذه السطور).
وفي متابعة بائسة للحكايتين، تكالبت وسائل إعلام، متدنية المستوى الأخلاقي والمهني، غير المعنية إلا بتحقيق أعلى المشاهدات، والسعي لإحراز سبق صحافي على حساب أوجاع ذوي الضحايا من خلال إجراء حوارات معهم، وهم في عزّ الصدمة والذهول، في استغلالٍ رخيص لمصابهم الأليم. كذلك خرج علينا في مصر شيخٌ برتبة كوميديان هابط المستوى، مبتذل الأسلوب، سوقي، لم يخفِ تشفّيه في مقتل الضحية السافرة، محذّراً، في خطاب إرهابي داعشي، فتيات مصر من مغبّة الخروج من بيوتهن غير محجبات، مهدداً إياهن بالمصير ذاته، من دون أن يخطُر بباله، لانعدام حساسيته وتبلد مشاعره، إدانة الفعل المشين، أو حتى إبداء التعاطف مع أهل الصبية المغدورة التي دفعت حياتها ثمناً لكلمة لا، قالتها بوضوحٍ وشجاعةٍ وأنفة، في وجه وغدٍ عديم الكرامة، أراد أن يفرض نفسَه عليها بالإكراه.
لم يعرف هذا الشيخ المؤسِف أن ضحية عمّان كانت ترتدي الحجاب، حين أزهقت روحها في حرم الجامعة وسط صدمة الحاضرين. كان ذنب إيمان الوحيد أنها مارست أيضاً حقها الطبيعي في رفض قاتلها الأرعن، وقد استلهم جريمته النكراء من مجرم المنصورة الذي تباكى بدموع التماسيح، حين أعاد تمثيل الجريمة، مدّعياً أن الدافع لجريمته هو الحب. لذلك، سلبها حياتها بدم بارد، وهو يدرك تماماً تبعات جريمته ومدى الألم الفظيع الذي سبّبه لعائلتها المكلومة. لم يختلف عنوان جريمة جامعة العلوم التطبيقية، فالقاتل المجرم عاشق ولهان إلى درجة القتل مع سبق الإصرار والترصّد! إزاء قصةٍ جلل كهذه، تبدو كل المفردات قاصرةً عن التعبير عن حالة القهر والغضب التي عمّت الشارع الأردني المغدور في أمنه وأمانه، فلم تتوقّف المطالبات بإيقاع أقصى عقوبة ممكنة على الجاني، لتوافر عنصر القصدية وإدراكه مغبة أفعاله، كما طالب الجميع والد الضحية بعدم التجاوب مع المحاولات العشائرية المتوقعه التي ستسعى لدفعه إلى المصالحة على دم ابنته المهدور غيلةً وخسّة وغدراً، إنقاذاً لعنق السفّاح من حبل المشنقة، حاثّين إياه على التمسّك بحقّه في الادعاء الشخصي، وهذا ما أكده بيانٌ صادر عن عائلة الضحية المغدورة.
على الجهات المعنية، والحال المأساوية هذه، مسؤولية العمل على سنّ القوانين والتشريعات التي تكفل إنصاف المرأة، وحماية حقها في الحياة حرّة عزيزة مصونة الكرامة، وقد عانت طويلاً، ولا تزال، من منظومة جهلٍ وتخلّفٍ تجلت في قاعات محكمة الجنايات لقصص قتل النساء جوراً وظلماً وبهتاناً واستغلالاً فاضحاً للنصوص القانونية، يتيح تملّصا للقتلة المجرمين من العقوبة، تحت عنوان التنازل عن الحق الشخصي التي من شأنها تخفيض العقوبة إلى بضع سنوات حكومية. وعلى مؤسسات المجتمع المدني التصدّي بجدّية أكبر لظاهرة العنف المتفشّية في مجتمعاتنا، التي غالباً ما تدفع المرأة وحدها ثمنها في ظل ثقافةٍ مظلمةٍ تعاديها، وتحطّ من شأنها، وتستهين بحياتها، وتنظر إليها بعين الكراهية والريبة، باعتبارها فضيحةً محتملة.
كل العزاء للنساء المخذولات في أوطانهن غير الرؤومة، والرحمة لروحَي الضحيتين الشابتين، الصارخ دمهما غضباً في هذا العماء الرهيب، وهذا السواد الحالك.