هذا الشاعر من جماعتنا
عاد الحديث في سورية، قبل أيام، إلى ما تسمّى "الموافقات الأمنية"، فقد حضر عازف الكمان جهاد عقل ليعزف في مهرجان فني، فنقعوه ساعتين في الكواليس بانتظار الموافقة، ثم أعادوه من حيث أتى. وقصّة الموافقات الأمنية يعرفها الجَدُّ والجدّة، والأبُ والأم، والأبناء والبنات، والأحفاد والحفيدات. وتعرفها، كذلك، الحيواناتُ الأليفة، كالقطة، والكلب الذي يعوي على السيارات العابرة. الشعب السوري ذكي، وعنده حسّ عملي. لذلك لا يرهق نفسه في حفظ قائمة الأشياء التي يتطلب إنجازُها موافقة أمنية، فالأسهل أن يعرف الأشياءَ التي "لا" تحتاج موافقات.
نحن الذين كنا نشتغل فيما يسميه حزبُ البعث "الحقلَ الثقافي" نَعرف حكاياتٍ كثيرة، ومتنوّعة، عن نصوصٍ وإبداعات تعب مبدعوها فيها، مؤملين أن تخرج إلى النور، ولكن الموافقة الأمنية لعبت، في اللحظات الأخيرة، الدور الذي يسمّيه أهلُنا "جعيص خَرّاب اللُعَب". كان في مدينة إدلب عدة فرق مسرحية للهواة. وذات يوم، كانت إحدى الفرق في صالة الخنساء تُجري بروفة على نص مسرحي للكاتب المصري، محمود دياب، في أثناء البروفة فُتح الباب، وأطل رجلٌ بثياب مدنية، وقال: لا تتعبوا أنفسكم، هذه المسرحية لن يُسمح بعرضها. وخرج. بهت الممثلون والمخرج لحظات، ثم راحوا يتساءلون عمّن يكون هذا؟ يا تُرى، من أي فرع مخابرات؟ وهل يعقل أن يكون شخصاً عادياً ينتحل شخصية عنصر الأمن؟ وكان بإمكانهم أن يتأكّدوا من ذلك، ولكنهم اتفقوا على إلغاء العرض، من مبدأ: لا تنم بين القبور كيلا ترى مناماتٍ وحشة.
روى لي الفنان الكوميدي الراحل عمر حجّو حكاية بالغة الروعة. قال إن الرقابة على فرقة المسرح الشعبي في حلب كانت تقتصر على رقابة الأمن السياسي، وكان صف ضابط، برتبة "مساعد"، يتولى هذا العمل. ولأن "حضرة المساعد" كان يتدخل في الشاردة والواردة، فقد خطرت له ولزملائه فكرة جهنمية؛ أن تتحوّل الفصول التي تقدمها الفرقة إلى المسرح الإيمائي (البانتوميم). ومنذ ذلك الوقت، أصبحت العلاقة مع الرقابة مضحكة، يرسلون إليهم عبارة: يرجى الموافقة على تقديم نص مسرحي من دون حوار على خشبة المسرح الشعبي. فتأتي الموافقة بسرعة. ولكن حضرة المساعد شعر بأن هذه الفرقة تريد أن تضربه كُمّاً (تخوزقه)، فأرسل إلى الفرقة كتاباً يطلب منهم ملخصاً للفصل الكوميدي الإيمائي الذي ينوون تقديمه، وأن تلتزم الفرقة بهذا الملخص، فلا تشذّ عنه أثناء تقديمه على الخشبة! وكان من الطبيعي أن تمنع دائرةُ الرقابة المسرحيةَ التي كتبها سعد الله ونوس بعنوان "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، فعنوانها يوحي بأن الكاتب يتجرّأ على السخرية من الهزيمة التي كان مجرّدُ التلميح إليها ممنوعاً، فما بالك بالسخرية منها؟
يستطيع كاتب هذه السطور أن يورد ما لا يحسب الحاسب من الأمثلة على تدخلات الرقابة في الشأن الثقافي السوري، ومنها أن مدير المركز الثقافي في إحدى المدن الساحلية، وهو فاسد، وفي الوقت ذاته، صاحب نكتة، كان يعطي لعنصر الأمن السياسي الذي يأتي لمراقبة ما يجري في الأمسيات، ملخّصاً عن مضمون القصص والأشعار التي تلقى، بطريقة مضحكة، يقول له، مثلاً: اكتب. أشاد الشاعر فلان، في قصائده، باللُحمة الوطنية، وبالقيادة الحكيمة للسيد الرئيس، وأما القاص علان فحكى عن الغزو الثقافي، وألمح إلى ضرورة التصدّي للمؤامرات الإمبريالية، وأن تكون سورية صخرة تتكسّر عليها كل أمواج التآمر العاتية. ولكن، في ذات يوم، وقع المدير المذكور وعضو الأمن كلاهما في مأزق، إذ ألقى أحدُ الشعراء قصيدة حداثوية غامضة إلى درجة أن الناقد الشاطر لا يستطيع أن يخرج منها بجملةٍ مفيدة. احتار صاحبنا في ماذا سيملي على عنصر الأمن الذي كان يجلس أمامه وقد فتح فمه وأرخى أشياءه، وفجأة قال له: اكتب. هذا الشاعر من جماعتنا!