هذا انتقام الرب .. إنها سليمة
رحل، قبل أيام، رسام الكاركاتير لارش فيليكس. هل تتذكّره؟ إذا كانت الإجابة نعم، فـ"يا بختك". شخصيا لم أعرفه قبل الشهرة، ولم أتذكّره بعدها بيومين، فهو واحد من الرسامين الذين اشتهروا لأنهم سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم، نشر رسمته في 18 أغسطس/ آب 2007 في صحيفة سويدية اسمها نيريككس إليهاندا (اضطررت للعودة إلى "غوغل" للحصول على هذه المعلومات). كان من الممكن أن تمرّ الرسمة من دون التفات، ولم يكن ليعلم بها أحد سوى قرّاء الصحيفة المحدودين، إلا أن أبو عمر البغدادي، القيادي الداعشي، توعّد فيليكس في فيديو، ورصد مائة ألف دولار مكافأة لمن يقتله، وخمسين ألف دولار لمن يقتل رئيس تحرير الصحيفة التي نشرت له، فتحوّل فيليكس إلى رمز، وأيقونة، وعاش مطاردا من الصحافة والكاميرات والمتطرّفين والمتطرّفات، وتسبب في أزمة دبلوماسية بين بلاده و22 بلدا إسلاميا. وتعرّض، غير مرة، لمحاولات اغتيال فاشلة. ومُنع من إلقاء محاضراته، كما تعرّض منزله لحريق، وهو خارجه. وكان أطرف ما تعرض له الرشق بالبيض أثناء إلقائه محاضرة في 2012.
الآن، مات لارش فيليكس، حادث سير، عادي، (وربما غير عادي)، في 4 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، اصطدمت سيارته بشاحنة، واشتعلت النار فيهما فقتلته ورجلي شرطة يحرسانه. ومع اشتعال سيارة فيليكس، اشتعلت مواقع التواصل، وبرامج التوك شو، المصرية والعربية، تفسيرات مختلفة في صياغاتها، متشابهة في ادّعاءاتها، تشير إلى أن الله انتقم للنبي، و"شفى صدور قوم مؤمنين". التعليق الأطرف كان للإعلامي المصري أحمد موسى (أعتذر عن وصف الإعلامي، لكنها الحياة)، أذاع موسى الخبر، منتشيا، وعلّق: مات محروقا، وهتف: "إلا رسول الله". .. موسى، كما تعلم، أحد أكثر المحرّضين على المتظاهرين بقتلهم، المبرّرين حرق جثثهم، الخائضين في أعراض من تبقوا منهم، معتقلين أو منفيين، لكنه يحب النبي، وجمال النبي. ذكّرني، ومعه أغلب التعليقات على "السوشيال ميديا" بالكاهن في فيلم "فجر الإسلام". يقف محمود فرج (حنظلة) يحطّم أحد الأصنام، فيما يدعو "الكاهن" الصنم أن يصبّ لعنته وغضبه على أعدائه. يصرخ حنظلة: "يا ويلتي شلّت ذراعي". .. يهتف الكاهن (لم يسعفني غوغل باسمه مثل فيليكس): "هذا انتقام الرب .. هذا انتقام الرب". تدور كاميرا صلاح أبو سيف (مخرج الفيلم) لترصد مشاعر المؤمنين إزاء حالة الشلل التي أصابت أخاهم، خوف .. قلق .. اضطراب .. قبل أن يضحك حنظلة ساخرا ويقول: الرب؟! "إنها سليمة.. إنها سليمة"، فتتحوّل مشاعر الخوف في أعين المسلمين إلى بهجةٍ وطمأنينة، فيما يتحوّل الكاهن إلى ثور هائج، ويحاول أن يقتل أحدا ممن تعرّضوا لصنمه بسهم في جعبته.
هكذا هي مشاعر الاحتفاء والانتشاء المجّانية إذا اصطدمت بالواقع، تتحوّل إلى عنف.. وقتل.. وتحوّلات جذرية، تنتزع صاحبها من الإيمان إلى الكفر، ومن التصديق إلى التكذيب، ومن الحب إلى الكراهية، ومن الدّعاء إلى السلاح. لست متعاطفا، طبعا، مع رسوم لارش فيليكس، ولست مهتما، في الحقيقة، لا به ولا برسوماته التي ما كان لها أن تُعرف لولا أن بعض الموتورين حملوها على أجنحة الذيوع، ولو تركوها لماتت قبل صاحبها، ولم يشعر بها أحد، لكنني مشغول، أكثر، بالتفسيرات الغيبية لليومي والعابر والمعتاد، (تفسيراتنا/ أصنامنا). يموت آلاف الأشخاص، يوميا، في حوادث سير، من دون أن يكون ذلك انتقاما إلهيا. ويموت آلاف الأشرار والطغاة والقتلة والمجرمين والمستبدّين، بين أهلهم، وعلى فراشهم، محاطين بالتوقير والتبجيل والدعوات والورود على شواهد القبور، من دون أن يكون ذلك تكريما لهم، أو "حسن خاتمة"!. للإله حسابات أخرى، ومنطق آخر، لا يغضب كما نغضب، ولا يغتاظ كما نغتاظ، ولا يتربّص وينتقم ويقتل ويحرق، على طريقتنا، "ليس كمثله شيء". وما تشهده مرحلة ما بعد إخفاقات الربيع العربي من موجة "نفورٍ ديني"، يتواطأ أصحابها ونقادهم على تسميتها، خطأ، الإلحاد. هي نتائج طبيعية، لتصوّراتٍ دينيةٍ طوباويةٍ افترض أصحابها انتصار الحق لأنه حق، وهزيمة الباطل لأنه باطل، فإذا بالواقع "يفشخ" الخيال، فالرحمة.