هذه الفتاوى والتابوهات
لو أعاق أمرٌ ما وصول الجاني إلى المركز الثقافي في تشوتاكوا في شمال ولاية نيويورك، مكان انعقاد الندوة التي كان مقرّرا أن يشارك فيها الروائي سلمان رشدي، أو لو أن موجة من التردّد والجبن شملت قلبه حين عزم على تنفيذ فعلته الشنيعة، لكان العالم تابع انشغاله بما هو منشغلٌ فيه، ساهيا عن الجريمة المستمرّة التي تعيش في ثنايا العالم، وتجري في دمه كالسم. في دهشة العالم مما أصاب الكاتب البريطاني الهندي على يد الجاني ما يدعو إلى التأمل. ربما كان على العالم أن يندهش أكثر لأن ما حدث في 13 أغسطس/ آب الحالي، على مسرح في نيويورك، تأخر أكثر من 33 سنة عن فتوى القتل. خلال هذه السنوات الطويلة، كان العالم غافلاً، أو شبه غافل، عن السم الذي يواكب زمن العالم ثانية بثانية، ويتحيّن القتل، حتى إذا حدث القتل أو محاولة القتل (عبّر المجرم الذي حاول قتل سلمان رشدي عن تفاجئه من أن ضحيته نجت من الموت)، استيقظ العالم.
لا يختلف ما حدث لصاحب "آيات شيطانية" في 2022، عما حدث لنجيب محفوظ صاحب "أولاد حارتنا" في القاهرة في 1994. الدافع في الحالتين "إدانة" الكاتب بالاعتداء الكتابي على المقدّسات. وبالمناسبة، يلفت النظر تشابه طريقة محاولة القتل في الحالتين، بما يدفع إلى التفكير بأن الأمر لا يتعلق فقط بالسهولة الأمنية لاستخدام السكّين، بقدر ما يتعلق أيضاً بإشباع رغبة المجرم الموتور بالتماسّ المباشر مع ضحيته "المعتدي الثقافي" وطعنه، في ذلك ما يشفي غليل هؤلاء.
من حقّ أيّ منا أن يتساءل: كيف يمكن لشخصٍ واحد، مهما علا شأنُه، أن يحدّد المقدّسات نيابة عن الملايين؟ ألا يمكن أن ترى الملايين، ممن يفتَرض هذا الشخص أنه يمثلهم، أن حياة الإنسان مقدّسةٌ وتعلو على أي اعتبار، وأن الاعتداء عليها هو اعتداء على المقدّسات أيضاً؟ وحتى لو اتفقنا على تحديد مقدّساتنا، كيف يمكن لشخصٍ واحد، أو مجموعة أشخاص، أن يحدّد شكل الدفاع عن هذه المقدّسات نيابةً عن الملايين؟ هل يكون الدفاع بتخويف الآخرين أم بتفنيد "إساءاتهم"؟
أصحاب الفتاوى يمتلكون معظم المنابر الشفهية والكتابية، ويمتلكون إمكانات النشر والتوزيع ووسائل الإعلام والوصول إلى الجمهور
تأتي إدانة الكتّاب أو "المعتدين الثقافيين" من مُفتين يمتلكون من سبل الردّ على ما يرونه اعتداءً كتابيا، أضعاف ما يمتلك هؤلاء الكتاب "المعتدون"، فأصحاب الفتاوى يمتلكون معظم المنابر الشفهية والكتابية، ويمتلكون إمكانات النشر والتوزيع ووسائل الإعلام والوصول إلى الجمهور، ولكن لماذا يشعرون بهذا القدر من خطورة القول الذي لا يراعي قناعاتهم؟ كيف يرضون بأن يكون الخوف وحده ما يجعل الناس "يحترمون" مقدساتهم؟
مع ذلك، هناك فارق يشد الانتباه، بين حالتي رشدي ومحفوظ، في الأولى كانت الفتوى علنية توازي المستويين المعنوي والمؤسساتي لمطلقها. لم تكن الفتوى بحقّ رشدي صادرة، كما هو الحال غالباً، عن منظمات سرية أو دون دولتية، يُكلف بتنفيذها مُنتسبٌ ما و"يتشرّف" بهذا التكليف، وينفذه بإخلاص، بل كانت فتوى معلنة موجهة إلى العامّة من رجل له اعتبار ديني عام وكبير، وكان أن توفي هذا الرجل بعد أقل من أربعة أشهر من إطلاقه الفتوى (صدرت الفتوى في 14 فبراير/ شباط 1989، وتوفي الخميني في 3 يونيو/ حزيران من العام نفسه). على هذا، صارت فتوى إعدام رشدي أكثر شبهاً باللعنة التي لا يمكن ردّها، فلا يبطل مفعولها بالقضاء على التنظيم الذي أصدر الفتوى مثلاً، وبالتالي، شلّ قدرة التنظيم على تنفيذ الفتوى. كما لا يمكن ردّها بأن يُبطلها من أصدرها، أو يأمر عناصره بالكفّ عن محاولة تنفيذها. هذا فضلاً عن أن توبة المحكوم بهذه الفتوى لا تنفع في ردّها، ذلك أن "سلمان رشدي حتى لو تاب وأضحى زاهد عصره، فإن على كل مسلم أن يجنّد روحه وماله وكل همّه لإرساله إلى الدرك الأسفل"، كما جاء في لواحق الفتوى.
هذا ما يميّز فتوى الخميني بحقّ رشدي، وهو ما يعطي الفاصل الزمني الطويل بين الفتوى وتنفيذها قيمة "قَدَرية" تفوق سرعة التنفيذ. كان يمكن للخميني الذي كان يحوز كامل جهاز الدولة الإيرانية حين أطلق الفتوى، أن يستخدم هذا الجهاز في تنفيذ فتواه، ولكنه لم يفعل. أرادها فتوى عامة، ما أن أطلقت حتى باتت برسم كل فردٍ مسلمٍ يرى الخميني الإمام بأل التعريف، ولم يعد من الممكن ردّها.
في موازاة العالم الذي يدافع عن حرية التعبير عالم يصنع المزيد من التحريمات والتابوهات
ويبقى السؤال، ماذا نفعل كي نزيل نسغ الجريمة الذي يجري في عروق العالم؟ كي لا يبقى هذا السم قدراً تقدم له البشرية الأضحيات من خيرة أبنائها؟ والحقّ أن السم لا يقتصر على الفتاوى الدينية، وإنْ كانت الأكثر انغلاقاً ودموية، بل يشمل كل أشكال الحظر والتحريم الثقافي المغفل المصدر، والتي تشيع في البلدان الديمقراطية وكأنها بديل مهذّب عن ثقافة الإرهاب بالفتاوى.
ما جرى، أخيرا، مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في برلين يضيء على أحد خيوط شبكة التابوهات التي تكبل العالم وتتسق، وإن على نحو مؤسّساتي "مهذب"، مع فتاوى الحظر والمنع وإهدار الدم. لا يكفي أن تعترف بالمحرقة (الهولوكوست)، وأن تدينها بوصفها جريمة إبادة رهيبة تفوق الوصف، عليك أن ترفعها إلى مستوىً مطلق، فيصبح مجرّد التشبيه جريمة، لأنه "يضفي الطابع النسبي على تفرّد المحرقة"، بحسب المستشار الألماني شولتز، حتى لو جاء التشبيه على لسان مسؤول فلسطيني تعرّض ويتعرّض شعبه لجريمة مستمرة على مدى عقود طويلة، وعلى مرأى من العالم وعلى أيدي من ينصبّون أنفسهم حراساً لهول المحرقة.
الحقّ أنه في موازاة العالم الذي يدافع عن حرية التعبير، هناك عالم يصنع المزيد من التحريمات والتابوهات، بدلاً من فتح الأبواب لنقاش مطمئن في كل شيء، ولإبداء الرأي بكل جوانب الحياة، هكذا يسود مبدأ التحريم على المبدأ "الدارويني" الذي يبقي لكل فكر أو قناعة أو إيمان ما يستحقه من سبل البقاء، من دون تأثيرات "خارجية"، أي من خارج الفكر. الجرأة والتضامن في مواجهة النزوع التحريمي (الديني وغير الديني) الذي يغزو مختلف جوانب المجال العام توفر على العالم صدماتٍ يمكن تفاديها. لا يمكن الحجر على الفكر، مهما اشتدّت وتنوعت وسائل الردع، من شأن هذه فقط أن تزيد عدد الضحايا.