هكذا عبرتُ الحاجز
الكلب ابن الكلب شتيمة، لكنها هنا ليست لبشر، وإنما لكلبٍ بوليسيٍّ كان يحرُس بوابة السفينة العملاقة، قام بواجبه على أكمل وجه، الحراسة طبعٌ في الكلب، الكلب حارس.
تابع صاحبي، وقد طلبتُ منه أن يروي قصة وصوله إلى البرّ الأوروبي، فقال: سأروي لك الحكاية وأختمها بحزّورة، يمكن أن أقول إني عبرته كما عبر أندي دوفرين أنبوب المجاري المليء بالقاذورات، والذي بلغ طوله ميلًا كاملًا.
وصلتُ إلى ألمانيا عبر سفينة عملاقة تشبه سفينة الحب، وسفينة الحب اسم مسلسل كوميدي أميركي إمبريالي، كانت الشاشة السورية الاشتراكية تعرضه. عشتُ في اليونان ما يقرب من سنة، وأنا أحاول التسلّل إلى طائرة بهوية مزوّرة. حاولتُ ست عشرة مرّة ركوب الطائرة في أثنيا، أتنكّر كل مرّة في زيّ مختلفٍ وهويةٍ مغايرة. تنكرتُ مرّة بزيّ مكسيكي، ومرّة بزيّ هندي، ومرّة بزيّ غجري، وأخفقت محاولاتي كلها. كان موظفو المطار، وقد تدرّبوا، واستعانوا بخبراتٍ سوريةٍ وعراقية، على طريقة "كاتش مي إيف يو كان"، وكانوا يكشفونني، ثم يطلقون سراحي بعد ساعات من الاحتجاز، وكنت أرشو بعضهم، فيرفقون بي، فالتضخّم كبير في اليونان، والمرء يحبّ المال، لكني لم أكن أستطيع رشوة شرطة المطار كلهم، فيئست، وكففتُ عن محاولة العبور جوًّا. وكان مالي قد قلّ، وتعرّفت على عشرات المهرّبين المحترفين في الفنادق الرخيصة التي أقمت فيها، إلى أن تعرفت على مهرب عراقي متزوج من يونانية، وقد سبقنا العراقيون في الهجرة، فدلّني على طريقةٍ آمنةٍ وسهلةٍ ومضمونة للعبور إلى أوروبا، وطلب ثمنًا لوصْفَته، فقبلت، قال: تتنكّر في هيئة أوروبية حسنة متقنة، وتقصد جزيرة زاكينثوس، في موعدٍ أحدّده لك، فهي جزيرة سياحية، وتندسّ بين السياح، وهم أخلاط من الناس، وتعبر.
- هكذا ببساطة.
- مثل شرب الماء.
سألتُه عن الحواجز والبوليس، فقال: هم لا ينظرون سوى في هيئات السواح، ويستعينون بكلب. الكلب هو شرطي البوابة، وقد اشتريتُ هذه المعلومات من شرطي يوناني. نفحت العراقي مائة دولار، وبدأت أعدّ هيئتي، لست أسمرَ كما ترى ملامحي، فهي أوروبية، تستطيع أن تصنفني من الشقر. اشتريتُ زيًّا أوروبيًا. وفي اليوم الموعود، ركبت زورقًا، وقصدت الجزيرة، واندسستُ بين السياح، لو نظرت إليّ لوجدتني مثل الأميركيين؛ ألفيس بريسلي، أو ماكس المجنون، صورة طبق الأصل من الدرّاجين في أفلام الأكشن الأميركية، اصطبغت بوشوم مؤقتة على الذراعين والوجه والساقين، تحلّيت بسلاسل وأقراط وأساور، حلقت حلاقةً تحوّل بها رأسي إلى لوحة من الفن التشكيلي، أصبحت متحفًا بشريًا متجوّلًا للرسومات والحلي، ربما بالغت قليلًا في الزيّ والهيئة، علا صوت بوق المغادرة، فانتظرتُ حتى دخل نصف الركاب السفينة، توددتُ إلى صبيةٍ وحيدةٍ زيادة في التنكّر والتعمية، وبادلتها الحديث، فسرّت بي، ووقفت معها في الطابور وأنا أروي لها نكاتٍ عربيةً قديمةً، فتقهقه ضاحكة. مررْنا سويًا من البوابة التي كان يقف عليها شرطيان ومعهما كلب وديع، الذي ما إن مررتُ بجانبه حتى نبحني. لم ينبح الكلب أحدًا من ركّاب السفينة سواي، سألني الشرطي الموظف عن جواز السفر، فانكشفتْ حيلتي، وأبعدوني، عدت إلى أثينا، وبقيتُ يومين، وأنا أضرب الأخماس بالأرباع مفكرًا في الكلب الذي رصدني وكشف جنحتي. كيف ميّزني الكلب ابن الكلب بين آلاف الركاب؟ ... ثم عرفت السبب فصرخت مثل أرخميدس في الحمام: وجدتها وجدتها.