هلال العيد.. بالحسابات الكلثومية
ثمّة خلاف سنوي، متكرّر، بشأن ثبوت هلال العيد، بالرؤية المباشرة أم بالحسابات الفلكية. وعلى الرغم من دقة هذه الحسابات، وكونها شكلا مؤكّدا من أشكال الرؤية، في مواجهة الرؤية المباشرة، وهي شبه مستحيلة، إلا أن أحوال العقل العربي المأزوم، والمسكون بهواجس التاريخ، ما زالت تسمح بمثل هذا النوع من الخلافات. يبدو هلال "الفلك" الأكثر دقةً، وعلميةً، وموثوقية، لكنه لم يجد طريقه بعد إلى "الوجدان العربي"، فيما فعلتها أم كلثوم ومن ورائها أحمد رامي ورياض السنباطي، بأغنيتهم المبهجة "يا ليلة العيد"، والتي تحوّلت إلى المعادل الموضوعي، والفني، لمجيء العيد، أي عيد، والاحتفال به.
كان الباعة في مصر، وخصوصا باعة الفاكهة، يتوارثون طرق النداء على بضائعهم، وترويجها بالغناء وتسلية الزبون.. جمل نثرية بديعة تعبر عن نوعية البضاعة، وأخرى مسجوعة، توشك أن تقترب من الشعر، بالإضافة إلى طريقة تلحينها، المتوارثة من جيل إلى جيل. وكان سيد درويش، مجدّد الأغنية المصرية، ورائد نهضتها الحديثة، يتقفّى أثر الباعة الجائلين، ويطاردهم في شوارع المحروسة وحواريها، في الإسكندرية ثم القاهرة، ويأخذ عنهم، ومنهم، الكلمة واللحن والأداء والروح، وينسج على منوالهم، بوصفهم خزانة التراث الموسيقي المصري، الشعبي، "الحقيقي"، وغير المتأثر بالموسيقى التركية. وكذلك كان تراث "الفاكهانية" أحد مصادر الكلمة لدى شاعر الأغنية الاستثنائي، مرسي جميل عزيز. من هنا بدأت قصة "يا ليلة العيد"، حيث كانت أم كلثوم في طريقها إلى مبنى الإذاعة القديم، حين سمعت "بيّاعا سرّيحا" ينادي على بضاعته ويتغنّى بعبارة "يا ليلة العيد أنستينا". لفتت العبارة أذني "الست".. التقطتها كما كان درويش "يلقط" رزقه من فم الباعة، ردّدتها، حفظتها، وحملتها إلى مولانا بيرم التونسي، ليكتب لها أغنية مطلعها "يا ليلة العيد أنستينا"، وبدأ بيرم الكتابة بالفعل، لكنه رحل عن دنيانا قبل أن يُكملها. ذهبت عبارة البائع المجهول، صاحب براءة اختراع الهلال الكلثومي إلى شاعر الشباب أحمد رامي، وكتبها، كما أرادت ثومة، لتبدأ حكاية جديدة للأغنية "وش السعد" على الست.
يسجل الناقد والمؤرّخ الموسيقي فكتور سحاب في المجلد الأول من موسوعته "أم كلثوم" خط سير الأغنية.. سجّلتها أم كلثوم على أسطوانة كايروفون عام 1939، وغنّتها في العام نفسه في فيلم "دنانير"، (بطولة أم كلثوم وسليمان نجيب، تأليف أحمد بدرخان وإخراجه)، وجاءت بعض كلماتها معبّرة عن سياق الفيلم الذي تدور أحداثه في بغداد، أيام هارون الرشيد، وتلعب فيه أم كلثوم دور جارية، بدوية، يسمعها الوزير جعفر البرمكي، في أثناء مروره في الصحراء، فتسحره، ويأخذها معه إلى بغداد لتتعلم أصول الغناء على يد إبراهيم الموصلي، فتأتي كلمات الغصن الخامس من "الطقطوقة" لتقول: يا دجلة ميتك عنبر/ وزرعك في الغيطان نور/ يعيش هارون يعيش جعفر/ ونحيي لهم ليالي العيد.
كان من الممكن أن تظل الأغنية، أو الطقطوقة، واحدةً من أغنيات فيلم سينما للستّ، إلا أن أم كلثوم غنّتها مرة أخرى بعد أربع سنوات تقريبا، وتحديدا 24 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1944، في استاد مختار التتش، بالنادي الأهلي، وطلبت من رامي تعديل بعض الكلمات، مثل "يا دجلة ميتك عنبر" التي تحوّلت إلى "يا نيلنا ميتك سكر"، وأيضا "يعيش هارون يعيش جعفر" التي تحوّلت إلى "تعيش يا نيل وتتهنى". وفي أثناء غنائها، جاء ملك مصر والسودان، فاروق الأول، بشكل مفاجئ، ومن دون ترتيبٍ مسبق، فاستقبلته الجماهير بحفاوةٍ وهتفت له، وتأثرت أم كلثوم بحضوره خصّيصا ليسمعها، فارتجلت له شطرة، وحلّ فاروق محل هارون الرشيد ونهر النيل معا، وغنت الست: "يعيش فاروق ويتهنّى ونحيي له ليالي العيد"، فمنحها الملك وسام الكمال ولقب صاحبة العصمة. وكادت هذه الشطرة الملكية أن تقضي على الأغنية، بعد أن جاء ضباط يوليو 1952، ومنعت الإذاعة المصرية بثّ الأغنية التي تحمل اسم الملك "البائد"، إلا أنها عاودت الظهور، بعد عقودٍ من خفوت نجم يوليو، واستقبلها جيل الأغنية الشبابية، في التسعينيات، لتتحوّل من "طقطوقة" إلى "هلال".. ليلة العيد.