هيئة التحرير السورية بوصفها قَبالَةً سياسية
هذا النص استمرارٌ في بلورة ما أصبح يُعرف بـ "مشروع تأميم سورية"، الذي بدأت "العربي الجديد" نشره في مقالات للكاتب بدءًا من مقال "المسألة السورية وتأسيس الحل النهائي" (21 يوليو/ تموز 2021). وقد تبدو فكرة تأسيس حل نهائي للمسألة السورية من أكثر الأفعال الراهنة تعقيدًا في التاريخ المعاصر، ولكّن ينبغي ألَّا يمنعنا هذا التعقيد من التفكير، وينبغي ألّا تخيفنا أو تحبطنا الهالةُ السوداء التي تحيط بالمسألة السورية اليوم. وربما تكون الكتابة من أفضل طرائق التفكير: الكتابة المنشورة بالتحديد؛ فالنشر يُصيِّرُ التفكيرَ تواصليًا وعلانيًا وتبادليًا؛ فيساهم، بصورة أو بأخرى، في مراكمة رأس مالٍ اجتماعي سوري وطني من طريق المساهمة في إيجاد فضاء عمومي؛ فالبشر يعيدون اكتشاف ذواتهم باستمرار، لأنهم يعيشون مع آخرٍ من نوعٍ ما، ولأنهم بقبول الآخر وفهمه يقتربون من فهم ذواتهم أكثر، من ثم يُقبِلون على ذواتهم أكثر؛ فيصيرون أكثر فردانيةً، وربما تكون الفردانيةُ على هذه الصورة روحَ الوطنية السورية المأمولة. وفي تقدير الكاتب، ثمة أمرٌ آخر يوجب استمرار هذا النوع من التفكير، وهو مسؤولية السوريين الأخلاقية في وقف ما يمكن تسميته تحويل سورية إلى موضوعٍ للتجريب السياسي، ومختبرٍ للتجارب السياسية التي يستفيد الآخرون منها كثيرًا، ويتعلمون من دروسها، فيما لا يستفيد السوريون شيئًا منها، بل على العكس: تترك التجارب دائمًا آثارها الكارثية في كينونة وطنهم. ولا أحد في هذه الدنيا مؤهلٌ للدفاع عن سورية مثل السوريين، وتبدأ عملية الدفاع من استرداد الوطن: يعني من تأميم سورية لتعود ملكًا للسوري العادي.
انتهى النص السابق المنشور في 23 فبراير/ شباط 2022، "مجدّدًا .. لماذا بيان تأميم سورية"، إلى اقتراح تضمن البداية من ابتكار جماعة سياسية تكون بمنزلة "هيئة تحرير وطنية واسعة" تفرض قراراتها السياسية باسم السوريين، وتستمدّ قوتها منهم لفرض خياراتهم على الجميع، وتدير تداخلات مصالح الدول، وتحقّق الانتقال السياسي واستعادة الوطن: أي تأميمه سياسيًا. وداخليًا تدحض هيئة التحرير السورية فكرة التجانس باستمرار، وتنظر إلى الاختلاف بوصفه طريقة لتجنّب الحرب، والطريقة الوحيدة للحفاظ على الهويات الثقافية والإثنية والفرعية كلها. وبطبيعة الحال، تتجاوز هذه الهيئة النظام والمعارضة معًا، مع الحرص على تمييز المعارضة من النظام على المستوى الأخلاقي، بوصفهما ينتميان إلى ما قبل 2011 على مستوى منهجية التفكير، ويمتلك كلاهما أدوات عملٍ سياسيٍّ منتهية الصلاحية، وضعتها الثورة في مكبِّ نفايات المفاهيم الكارثية والقديمة التي لم تعد تصلح للعمل السياسي بعد 2011. وقد لاقت هذه الفكرة ترحيبًا وحماسةً للبناء العملي عليها. وأيضًا لاقت نقدًا، والنقد يدلُّ على قابليتها للحياة، ويضخّ فيها روحًا، ويمنح معتنقيها تفاؤلًا في إمكانية أن تُنتج شيئًا في المستقبل. من هذا النقد ما كان شفهيًا يصعب التعامل معه لغياب توثيقٍ وتحديدٍ واضح لمادته الرئيسة، ومنه ما كان مكتوبًا مثل مقال حسن نيفي "بين تأميم السياسة وإعادة إنتاجها" المنشور في موقع تلفزيون سوريا في 25 فبراير/ شباط 2022، الذي يلتقي مع فكرة ابتكار جماعة سياسية تستقوي بالسوريين، ومع فكرة تأميم السياسة بالعموم، ولكنَّه يطرح ثلاثَ نقاطٍ لافتة ومهمة بتقديرنا، وهي بمجملها تتضمن نقدًا إيجابيًا لما سمّاه المقال "الدور المُنتظر" من الجماعة السياسية المبتكرة (هيئة التحرير السورية). ويقدِّم نيفي فكرة مهمة يسميها "المواجهة المزدوجة"؛ فكأنه يقول إن هيئة التحرير السورية ما إن تعلن عن نفسها بأنها تنتمي إلى ما بعد 2011 وتتجاوز النظام والمعارضة معًا، حتى تضع نفسها في مواجهة مزدوجة أمام الدول النافذة في الشأن السوري من جهة، وأمام الكيانات الرسمية للمعارضة من جهةٍ أخرى (بتعبيرات نيفي). والفكرة الثانية المهمة أيضًا، ولها ما يسوِّغ طرحها، أن هذه الهيئة لكي تتكلم بلسان حال السوريين ينبغي أن "تلتفت إلى ما يؤرّقهم"، وفي موضعٍ آخر يستخدم المقال كلمة "أولويات": وكأنه يقول إذا أرادت هيئة التحرير السورية أن تستقوي بالسوريين عليها أن تتبنّى أولوياتهم التي تحيل، بطبيعة الحال، على مسائل معيشية واقتصادية أكثر مما هي سياسية. والنقطة الثالثة اللافتة أيضًا في المقال هي ما يمكن أن نقول إنه تعيين المسألة السورية في برنامج سياسي عملي بدلًا من تناولها بتجريد، وتنتمي إلى هذا البرنامج "مفردات بسيطة (بتعبيرات المقال) ذكر منها: المعتقلون، المُهَجّرون، النازحون، "المقهورون تحت نير سلطات الأمر الواقع"، "رفض تعويم الطغمة الحاكمة"، "رفض الالتفاف على القرارات الأممية"، "التصدّي للعابثين بالمصير السوري" إلى ما هنالك.
أخفقت المعارضة في القبالة السياسية في أثناء مخاض الوطنية السورية من رحم الثورة، لأنها تعاني من العمى الاجتماعي
طرح حسن نيفي نقاطًا جديرة بالتفكير والتفاعل معها. ويستكمل هذا المقال هنا أولًا بسط توجّهات مشروع تأميم سورية ومنهجية التفكير السياسي التي أدّت إلى طرح ابتكار هيئة التحرير السورية، ثم نتفاعل في ضوء هذا الاستكمال مع هذه النقاط الثلاث، خصوصًا أنها نقاطٌ تثير مُشكلًا منهجيًا بالدرجة الأولى. وفي سبيل ذلك، نبدأ من توسيع فكرة ربط التفكير بالزمن؛ فنقول إننا نفكِّر في سورية الآن، ولا تعني هذه "الآن" آنيةً في التفكير، بل تعني انتقالًا إلى ما بعد 2011 على مستوى استيعاب الذي حدث (وهذه فكرةٌ تطرق إليها صاحب هذه السطور سابقًا)، وتعني أيضًا نوعًا من تقسيم العمل المرحلي بموجب الواقع الراهن: بهذا المعنى، تصير مهمة هيئة التحرير السورية الأولى الآن هي المهمة العاجلة التي تأخرت السياسة الوطنية السورية في إنجازها إلى الآن، وهي التي نقترح لها اسم "القَبَالة السياسة": إي إن وظيفة السياسة منذ 2011 لم تكن إلا قبالة لإنتاج الوطنية من رحم الحراك الاجتماعي السوري، ولم يكن يومها مطلوبًا من المعارضة أن تُنظِّر لجديد، أو أن تركن إلى مخزوناتها الأيديولوجية لتتصوّر الحاضر والمستقبل؛ فلا أحد يطلب من القابلة أن تحبل لتساعدَ أُمًا حُبلى على الولادة، كان المطلوب منها تيسير المخاض فحسب. والقبالةُ، بطبيعة الحال، ليست فعل خلقٍ أو تكوين؛ بل هي فعلُ مساعدة، ولكن ليست أي مساعدة، بل هي مساعدة على استكمال فعل تكوينٍ قد لا يصير موجودًا من دونها. ولا يُشترط في القابلات معرفة جنس المولود، أو شكله، أو لون عينيه وشعره: ما يهم هو مساعدة الأم في ولادتها بسلامة، فحسبهنّ أن يجعلن المخاض يسيرًا، لا أكثر ولا أقل. وفي هذا الترميز أهمية للقول إن دور السياسة الوطنية يومها كان هكذا؛ فالثورة كانت حبلى بالوطنية السورية في حينها (وربما لا تزال).
أخفقت المعارضة في القبالة السياسية في أثناء مخاض الوطنية السورية من رحم الثورة، لأنها كانت، ولا تزال، تعاني من العمى الاجتماعي الذي يمنعها من رؤية السوريين العاديين، والعمى التاريخي الناتج من الكسل واختزال السياسة في لحظة واحدة. وينتج من هذا العمى المزدوج وعيٌ زائف، يُنتجُ بدروه الوهمَ ويعيد إنتاجه، وأكثر هذه الأوهام كارثيةً اعتقاد المعارضة بصورتها الحالية بأنها "النخبة السياسية" في سورية. والقبالة السياسية في المسألة السورية منذ 2011 نقيضُ التفكير الأيديولوجي، ونقيضُ التسطيح الذي ينتجه الوعي الزائف والعقل الكسول، ونقيض الوهم الذي يبدو منطقيًا (logical delusion): كأن نقول إن المعارضة معادية للنظام، والثورة تريد إسقاط النظام، فنستنتج بموجب "علاقة متعديَّة منطقية" أن المعارضة تمثّل الثورة! اليوم صار بالإمكان وضع إشارة تعجبٍ غير خجولةٍ بعد هذه العبارة الأخيرة، لأنها عبارة تنتج الوهم، وتختزل هدف الثورة إلى إسقاط النظام فحسب، وتقزِّم الثورة إلى معارضة، وصولًا إلى إمكانية نحت مصطلح مثل "عطب الذات" الذي نحته برهان غليون عنوانًا لكتاب له.
السوري العادي (مالك الثورة وصاحب السيادة ومالك الوطن) شخصيةٌ سياسيةٌ محورية ومفصلية بعد 2011، وهي شخصية عادية تُخطئ وتُصيب وتنشط وتتخاذل وتحب وتكره، ولكنها تتعلم من كل شيء، وتبني وطنًا من الاختلاف لأنها غير مؤدلجة. وفي المقابل، ثمّة سوري النظام: شبيحٌ ومجرمٌ من دون قعرٍ للسفالة. وثمّة سوري المعارضة: سوري مقلوب لأنه مؤدلج، ولهذا السبب بالتحديد هو مَعطوب، ولكن هذا العطب ليس عطبًا في الذات السورية؛ فهذه الذات لا تحيل عليه بأيٍّ من الصور، لكنَّه "عطب المعارضة".
ما لم يمتلك السوريون العاديون مشروعَ السياسة في بلدهم، لم، ولن، يكون في الأفق أي فُرصةٍ قابلةٍ للاستغلال
بالعودة إلى نقاط حسن نيفي الثلاث، ومعالجتها في ضوء نظرية القبالة السياسية السورية، فكرة المواجهة المزدوجة صحيحة، ولكن إن لم تكن هذه المواجهة فإن بديلها موت الوطنية السورية في الرحم (موتها بوصفها فكرة). وإن أي حلٍ يستحق اسمه هو مشروع قبالة سياسية، أي إنه ينطلق من السوري العادي، وهذا بطبيعة الحال يعني ضرورة مرور الحل بهذه المواجهة المزدوجة من جهة، ويعني أيضًا من جهةٍ أخرى (وهذا الأهم) أن هذا المشروع هو الطرف الأقوى في هذا المواجهة إذا استقوى بالسوري العادي بحق. وفي التفاعل مع النقطة الثانية بموجب المنطق ذاته، تصير كل الأولويات المعيشية مرهونة بالأولوية السياسية، وعليه يصير "الالتفات إلى ما يؤرق المواطنين" (بتعبيرات حسن نيفي، مع التحفظ على لفظة "مواطنين") متطابقًا مع الالتفات إلى السياسة بالضرورة، ونتيجة من نتائجها: يعني أن تنهي الأمُ مخاضَها بسلامٍ أولًا، ثم يصير علاج أمراضها والاهتمام بباقي أولوياتها ممكنًا وأكثر يسرًا. وأما النقطة الثالثة التي تحيل على الانتقال من التجريد إلى التعيين بموجب برنامج سياسي يتضمن مفردات محدّدة وآليات عملٍ، فهذا في العمق توصيفٌ يتطابق مع فكرة تحديد مهام هيئة التحرير السورية بفعل قبالةٍ سياسية قبل فوات الأوان، وهي لفتةٌ مهمة.
أخيرًا، وفي هذا السياق نفسه، من الملائم الإشارة إلى ما يتبنّاه بعض الساسة والمثقفين هذه الأيام، أن ما يحدُث في أوكرانيا فرصةٌ سياسية للسوريين. مع أن هذا صحيحٌ بوجهٍ ما، ولكنّه يشترط أن ننتبه إلى أن الأوكرانيين هم أصحاب السياسة في وطنهم: يمتلكونها، وهم من يدير كفتها بثباتٍ واحترام وندّية إلى حدٍ كبير. وما لم يمتلك السوريون العاديون مشروعَ السياسة في بلدهم، لم، ولن، يكون في الأفق أي فُرصةٍ قابلةٍ للاستغلال، ولن ينعكس إيجابًا على السوريين أي تغييرٍ في المعطيات الدولية والإقليمية، لا حرب أوكرانيا ولا غيرها.