والآثار التاريخية غالباً ما تكون من الضحايا
للحروب تأثيرات مدمّرة لا تقتصر على البشر فقط، بل تمتدّ إلى البنية التحتيّة والمباني والعمران والآثار. والتدمير ليس مشكلةً مادّيةً فقط، بل له آثار اجتماعية واقتصادية طويلة الأمد، عبر تدمير المنازل والمتاجر والمكاتب، وتعطيل الأنشطة، وتشريد السكّان، والظروف غير المُستقرّة، ومخيمات اللاجئين. وتتطلّب إعادة الإعمار بعد الحروب والأزمات مواردَ ماليةً ضخمةً، وتكنولوجيا حديثةً، وخبرةً فنّيةً مُتقدّمةً، وهي أمور لا تكون مُتوفّرة بسهولة في المناطق المُتضرّرة.
تسبّبت الحرب العالمية الثانية في دمار هائل في أوروبا وآسيا، حيث تعرّضت مدنٌ للتدمير الكلّي أو الجزئي، مثل برلين ووارسو وهيروشيما، وتسبّبت الحرب السورية بدمار مدن بكاملها مثل حلب، المدينة القديمة، التي كانت تعتبر واحدة من أكثر المدن المأهولة أهمّية في العالم، تعرّضت لدمار كبير نتيجة استخدام الأسلحة المُتفجّرة الثقيلة، بكلّ ما تحتويه من معابد وأعمدة رومانية كانت مدرجة على قائمة التراث العالمي لـ"يونيسكو"، وكذلك سوق المدينة القديمة وقلعتها التاريخية، كما مناطق واسعة في دمشق والغوطة، ما أدّى إلى تهجيرٍ جماعيٍ للسكّان، وتدمير البنيةِ التحتية، وجهودُ إعادةِ الإعمار مُتوقّفة وتواجه تحدّيات عديدة. مدينة نينوى القديمة في العراق تعرّضت لتدمير واسع على يد تنظيم داعش، بما في ذلك تدمير مواقع أثرية ومعابد تعود الى الحضارة الآشورية. يعود بعض هذه المواقع إلى ثلاثة آلاف عام، كذلك جامع الموصل، ومنارته الحدباء الشهيرة. وتعاني بغداد والمدن الأخرى دماراً نتيجة القصف المُتكرّر بالأسلحة الثقيلة، ما جعل عملية الترميم وإعادة الإعمار تُمثّل تحدّياً هائلاً.
إسرائيل تنافس "داعش" إرهاباً في تدمير آثار غزّة، ولا تشبه حربها على الفلسطينيين الحروب الأخرى، بما فيها الحرب الروسية على مدن أوكرانية. تسبّبت في تدميرٍ واسع النطاق للمباني السكنية (أكثر من 375 ألف وحدة سكنية)، والقصف المدفعي والجوّي والبحري، بالإضافة إلى المعارك الأرضية، أدّت إلى انهيار الجسور وشبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، ما أدّى إلى تعطيل الحياة اليومية. إلا أنّ وضع الفلسطينيين مُهدّد بفقدان التراث الثقافي والتاريخي. غزّة لا تزال تتعرّض لجولات من القصف، وباستخدام أسلحة مُتفجّرة ذات قوّة تدميرية هائلة. وتَعْمَدُ قوّات الاحتلال بشكل منهجي إلى لى تدمير معالم المدن وذاكرتها في قصف الأحياء القديمة والبيوت التاريخية. فتندثر معالم المدنِ وأزقّتها وحاراتها، وألفتها وجمالها، وحميميّتها الفائقة، سواء في غزّة أو في جنوب لبنان. لطالما شكّلت الأماكن نسيجاً اجتماعياً متكاملاً للعلاقات بين الناس. لم يستثنِ القصف الإسرائيلي على الجنوب اللبناني لا الحجر (المسجد الأثري في بليدا)، ولا البيوت القديمة في حولا، ولا أشجار الزيتون والبطم والسنديان والملول، والشوح والغار، والعنب والتين، في ميس الجبل وحولا، بفعل القنابل الفوسفورية الحارقة ذات القوّة التدميرية بالمقارنة مع حرب 2006، ما يتجاوز القدرة على الترميم الفوري. فتفقد القرى تاريخها تدريجياً، وتستمرّ إسرائيل في سلب الذاكرة الفردية والجماعية، ومضمونها، من حرب إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل.
إسرائيل تنافس "داعش" إرهاباً في تدمير آثار غزّة، ولا تشبه حربها على الفلسطينيين الحروب الأخرى، بما فيها الحرب الروسية على مدن أوكرانية
ما يجري يتسبّب بفقدان لا يعوّض للآثار الإنسانية والتاريخية والدينية، مثل الكنائس والمساجد والمعابد، التي تعود إلى فترات تاريخية بعيدة، وغالباً ما تكون من الضحايا، ما يمثّل خسارة كبيرة للبشرية جمعاء مع سحق الحجر والطوب والمواد الأصلية، التي استخدمت في بنائها، إضافة إلى فقدان التفاصيل الفنّية والزخارف والنقوش الجدارية والفسيفساء والزجاج الملون، وتفاصيلَ كثيرةٍ، تُعبّر عن فترات زمنية وثقافات مُحدّدة، واستعادتها في قيمتها التاريخية والفنّية الأصلية نفسها شبهَ مُستحيلٍ، عدا التكلفة المادّية العالية (بلغت كلفة إعادة ترميم حريق كاتدرائية نوتردام في باريس نحو مليار يورو، في نطاق العمل الذي يتطلبه المشروع منذ العام 2019).
تراث غزّة، الذي يمتدّ آلاف السنين، ضحية كبرى لحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل منذ 7 أكتوبر (2023)، غير استشهاد وجرح عشرات الآلاف من المدنيين، ودمار المستشفيات والمدارس والخراب. يَعْمَدُ الاحتلال إلى سحق المواقع الأثرية والتاريخية المُهمّة في الشريط الغني بالحضارات المتعاقبة، مثل الحضارة الفلسطينية القديمة، والحضارة الكنعانية، والفترات الرومانية والبيزنطية والإسلامية، مادة أركيولوجية تمثّل تداخل خمسة آلاف عام من الحضارات، نافذة العالم العربي على البحر المتوسط، ومفترق تجاري، لا سيّما للبخور والحرير والعطور من آسيا. بنى المصريون مواقع محصّنة هناك منذ 3500 عام قبل الميلاد، وبعد ألفي عام، كان الفلسطينيون، أهل البحر، هم الذين استقروا على الساحل، قبل أن تقع المنطقة تحت سيطرة آشور وبابل. ثمّ بلاد فارس، والفترتين اليونانية والرومانية.
من غير الواضح ما إذا كان الإسرائيليون قد نهبوا ما وجدوه، أم أنّهم ببساطة دمّروه ليثبتوا أنّه لا يوجد شعب فلسطيني، ولا تراث فلسطيني
لم يسلم أيُّ موقعٍ من القصف. مركز مدينة غزّة القديمة (قلعة غزّة)، كان الأكثر تضرّراً. تل السكّري (العصر البرونزي والكنعاني)، قبر سيدي حسن، والماضي العثماني، تم تدميره بشكل كامل، والمسجد العمري، أقدم مسجد في غزّة دمّر ومكتبته، وما بقي منه ركام ومئذنة (نجا عدّة قرون من الزلازل وغارات فرسان الهيكل والأيوبيين ومن القصف البريطاني)، وحمّامات السمارة التركية في حيّ الزيتون، وكنيسة القديس بورفيريوس للروم الأرثوذوكس، والخانات المملوكية، أو قصر الباشا (مبنى عثماني في القرن السابع عشر)، كنيسة جباليا البيزنطية وفسيفسائها النادرة، التي تبلغ مساحتها خمسمائة متر مربع، وإلى الجنوب دير القديس هيلاريون، الذي سُميّ على اسم الرهبنة الفلسطينية (القرن الرابع) إلى متاحفَ في الهواء الطلق (رينيه إلتر) لجودت الخضري ولمحمد أبو الحياة. ولا تُعرَفُ حالة المباني التي كانت تضمّ الرواسب الأثرية، والتي تمثّل عقوداً من الحفريات. تحوّل تاريخ العالم إلى غبار، ودُمّرت قطعٌ من الألفية الثانية قبل الميلاد. أكثر من مائتي موقع أثري مدمّر كلياً، أو جزئياً من أصل 350 موقعاً في القطاع الفلسطيني. كما تمّ استهداف البنى التحتية الثقافية الأجنبية، ومنها المعهد الفرنسي في غزّة، الذي بني على أرض عرضها الرئيس ياسر عرفات على الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك. ومن غير الواضح ما إذا كان الإسرائيليون قد نهبوا ما وجدوه، أم أنّهم ببساطة دمّروه ليثبتوا أنّه لا يوجد شعب فلسطيني، ولا تراث فلسطيني، ولإحداث فراغٍ حقيقي في العلوم الإنسانية والاجتماعية في غزّة، استكمالاً لخطوات التطهير العرقي والغطرسة.
ليس لدى منظّمة اليونيسكو ثقل كبير في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية، وهي تراقب ما يجري استناداً إلى البيانات والمعلومات الساتليّة، التي يرسلها برنامج الأمم المتحدة للتدريب والبحث ومراقبة الأقمار الصناعية. من الصعب تقدير حجم الخسائر، الذي يمكن أن يكون هائلاً، ما يتطلّب مسحاً كاملاً، ودراسة المواقع، وتحليل الصور الجوّية والتقارير الميدانية، وأن تتركّز الجهود على التوثيق، والحفاظ على المعرفة بشأن المواقع المُدمّرة، بالإضافة إلى توفير الدعم والمساعدة لتقديم الرعاية للآثار المتبقّية، ولضمان الحفاظ على هوية وتاريخ مجتمعات كثيرة، وهي تحمل قصص الأجيال السابقة وتقاليدها، وفقدانها يعني فقدان جزء من هوية المجتمع وتاريخه، ما يُؤثّر بشكلٍ عميقٍ على التراث الثقافيّ للأمم.