وليام م. ومبرّئو العنصرية "العادية"
من بين أدوات العنصرية في استقطاب جمهور، اللغة المباشرة، بقدر ما تكون صادمة وشعبوية، بقدر ما يكون طريق وصولها إلى الغريزة أقصر، وتقنع المتلقي أكثر. والتسطيح ركن أساسي من أساليب اشتغال العنصرية وبلورة خطابها، فكلما كان أفقياً، طاول عدداً أكبر من الشرائح المستهدفة صاحبة القابلية إلى التعميم وإلى اعتبار أوّل ما تراه العين حقيقة مطلقة. وشهادة مرتكب جريمة قتل ثلاثة أكراد وجرح ثلاثة آخرين يوم الجمعة الماضي في شارع أنغيان الباريسي، ويُدعى وليام م.، درْس في هذا السياق، من شأنه أن يدخل يوماً مناهج جامعية في علم النفس التطبيقي والسياسة والاجتماع، ربما تحت عنوان مثير وتسطيحي آخر من نوع: دليلك إلى عقل العنصري العادي.
تنقل المدّعية العامة في باريس لوري بيكوا بعض مضامين اعترافات وليام م. يوم الأحد الماضي. يقول لها القاتل (69 عاماً) خلال التحقيق إنه كان ينوي في البداية "اغتيال مهاجرين" في ضاحية سانّ سان دوني الشعبية شمال العاصمة التي يقطنها عدد كبير من المهاجرين، وذلك بدافع كراهية للأجانب أصبحت مرضيّة لديه منذ تعرّض منزله للسطو عام 2016. لكن الإثارة لا تلبث إلا أن تبدأ هنا. سائق القطارات المتقاعد الذي لا تربطه علاقة بأي من أحزاب وتنظيمات اليمين المتطرّف، "قرّر عدم إطلاق النار في سان سان دوني لأنه لم يكن هناك عدد كاف من الأشخاص ولأن ملابسه لن تساعده على إعادة تلقيم مسدس بسهولة". توجّه بعدها إلى الحي الذي يضم تجمعاً للأكراد، وبقية القصة معروفة. لكن لماذا الأكراد تحديداً؟ الجواب بسيط وسهل ويطير بسرعة الصاروخ إلى أقرب خليةٍ للغرائز الدموية: وليام م. "غاضب من الأكراد لأنهم أسروا مقاتلين في أثناء محاربتهم داعش بدلاً من تصفيتهم". إذاً الأكراد مذنبون لأنهم لم يقتلوا كل من وقع تحت أيديهم ويتصل بداعش. لم يقتلوا كفاية من مصدر الشر الذي يجهل وليام م.، على الأرجح، أن عدداً كبيراً من المهاجرين الذين يحلم بقتلهم كلهم، لجأوا إلى بلده هرباً من داعش ذاك، لأنهم يكرهون داعش أكثر بكثير مما يفعل السيد وليام. أمام عدّة شغل "فكرية" من هذا الصنف، يصبح تأكيد القاتل أنه لا يعرف أياً من الأشخاص الذين هاجمهم، منطقياً وقابلاً للتصديق، وخصوصاً أنها الجناية العنصرية الثالثة التي يرتكبها الرجل، وإحدى الجريمتين السابقتين طعنه مهاجرين في مخيم عشوائي للاجئين في باريس وتخريب محتوياته قبل عام. حُكم بالسجن لـ12 شهراً فقط على فعلته الدموية، وأطلق سراحه في 12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أي قبل 12 يوماً يوماً من تنفيذه جريمته بحق أكراد شارع أنغيان.
كل هذا العفن الذي أخرجه وليام م. من صندوق باندورا العنصريين لم يقنع الأكراد وأصدقاءهم من اليسار الفرنسي. ممثلو الجالية الكردية في فرنسا، البالغ عدد أفرادها نحو 350 ألف شخص، رفضوا الرواية العنصرية للجريمة، وهم يصرّون على أن المقتلة "جريمة إرهابية" (سياسية لا عنصرية "عادية" فحسب) تقف السلطات التركية خلفها بطريقة من الطرق. حرق وتكسير ما تيسّر في ساحة الجمهورية في باريس يوم السبت، خلال تظاهرات أنصار الحركة القومية الكردية، كان ترجمة لرفض تصديق أن العنصرية يمكن أن تكون هكذا، "عادية"، خليط من أمراض نفسية وجنون وشعبوية وبشاعة وكراهية، بلا حزب يخطط لها ولا هدف سياسي، قد تقع فعلاً على ضحايا لا يتم استهدافهم بشكل مقرر مسبقاً مثلما كان حال الأكراد في جريمة يوم الجمعة الباريسي. يكفي أنهم أجانب، أنهم "الآخر"، أي الجحيم بتعبير جان بول سارتر. وإن كان جانب من نظرية المؤامرة التي تسكُن الحركة القومية الكردية مفهوماً نظراً لوطأة الجريمة والتاريخ، فإن ما لا يُفهم هو إيغال رموز من اليسار الفرنسي (الحزب الشيوعي وحركة فرنسا الأبية) في تعميق نظرية المؤامرة تلك، وتبرئة العنصرية "العادية"، من أجل إدانة الحكومة التركية. يسار متيّم بعالم مؤامراتي، ويشعر بعجز فكري لا يُطاق ما إن يواجه ظاهرة أصغر من قضاياه الكبرى، مثل العنصرية "العادية" التي لا يديرها حزب أو حكومة.