عن مقاومةٍ لا تحتل دولاً لتقاوم.. حماس وحزب الله
حماس المحاصرة.. إلى رفع الحصار
منذ الانقلاب العسكري في مصر 3 يوليو/تموز 2013، شهدنا تحولاً جذرياً في الخطاب والممارسة المصريّة تجاه فصائل المقاومة الفلسطينية بشكل عام، وحركة حماس بشكل خاص.
بين ليلة وضحاها، تحولت غزة إلى أحد أهم مصادر تهديد الأمن القومي، وتحولت حماس إلى حركة إرهابيّة، تقع على عاتق النظام الجديد مهمة حصارها، في إطار حربه الموسعة ضد الإسلام السياسي، وجماعة الإخوان المسلمين، حتى أن التهمة الأولى التي وجهت للرئيس المعزول، محمد مرسي، في أسابيع اختفائه الأولى، كانت التخابر مع حماس.
وقتئذ، أثارت هذه التهمة انتقادات وسخرية كثيرتين من القضاء المصري، لأسباب عدة؛ أولها غرابة هذه التهمه التي توجهها إسرائيل ضد من تعتقله وتحاربه من الفلسطينيين والعرب، ولا يعقل أن تستوردها دولة عربية، ما تزال تصنف إسرائيل عدواً أول، في قائمة مصادر تهديد أمنها القومي. وثاني الأسباب أن التواصل مع حماس ليس جديدًا أو خاصًا بمرسي، فمنذ عقود، تتواصل مصر مع حماس، وتنسق معها عن طريق إدارة المخابرات العامة.
لكن، وبعد برهة قصيرة من حكم الانقلاب، اكتشفنا مدى وجاهة هذه التهمة. فالنظام الجديد الطامح إلى اعتراف دولي، ولو شكلياً، بشرعيته، لم يجد سوى الباب الإسرائيلي ليطرقه، فتحولت إسرائيل إلى صديقٍ مقرب، وأحد ركائز حملته الدعائية في الغرب، للاعتراف به ضامناً للاستقرار في منطقة ملتهبة.
فدفعت حماس ثمن ذنبٍ لم ترتكبه، ودفعت غزة ثمن حقٍّ أصيلٍ لها بالانفتاح والتواصل مع العالم، وبالحصول على احتياجاتها الغذائية والاقتصاديّة. شدّد النظام الجديد الحصار على غزة وهدم الأنفاق، بذريعة حماية الأمن القومي، وأغلق معبر رفح فترات طويلة، ومنع خروج الفلسطينيين الغزاويين من القطاع، إلا في حالات استثنائية، وسعى إلى تجويعهم، بهدف دفعهم إلى الانقلاب على حماس، من خلال استنساخ تجربته، فأنشأ "حركة تمرد" غزاوية، والتي حددت، بدورها، موعدًا للتظاهر.
رافقت ذلك حملة إعلامية غوغائية لتشويه حماس، فاتهمت باقتحام السجون، وبقتل المحتجين، بل بافتعال ثورة 25 يناير، والتي تراجع ذكرها في الإعلام المصري، لتستبدل، أحيانًا، بمؤامرة 25 يناير. ضمن هذا السياق، تحركت ملفات ودعاوى في القضاء المصري، لإدراج حماس حركة إرهابية، وإغلاق مكاتبها، وتعالت أصواتٌ إعلامية وسياسية، بالتزامن مع العمليات العسكرية للجيش المصري في سيناء، تطالب باجتياح قطاع غزة، وتدمير حركة حماس، واعتقال قادتها ومحاكمتهم.
وأمام هذا الواقع، لم يكن أمام حماس سوى "تحمل" الجار المصري "المتفرعن" عليها بحكم "ديكتاتورية الجغرافيا" والحصار الإسرائيلي. فنّدت حماس، وبدقة، كل الاتهامات الموجهة إليها، ودافعت عن نفسها إعلاميا وسياسياً، ولم ينفعها ذلك بشيء، فالتحريض عليها أصبح سمةً أصيلةً في زمن عبد الفتاح السيسي، بل "مدخلاً" لكسب رضى السلطة الجديدة والتقرب منها.
فقدت غزة بعد الانقلاب في مصر متنفسها الأهم، وخسرت حماس "زمناً مصريا" قصيراً، وحكماً منتخباً لا يناصبها العداء على الأقل، ويعترف بها، وبحقها في المقاومة. جاءت الثورة المضادة لتزيد من آلام الحركة الفلسطينية، والتي فضلت راغبة خسارة أهم "داعميها" وفاء لمبادئها التحريريّة.
فمع انطلاقة الثورة السوريّة، سعى النظام، ما أمكن، لتحصيل موقف مؤيد له من حركة حماس، وتوظيفه رمزياً في معركة "شرعيته" التي استنزفت داخلياً وعربياً. لكن الحركة، وعلى الرغم من التداعيات المؤلمة، رفضت الانحياز إلى نظامٍ يستفرد بشعبه، ويقتلهم بالدبابات والطائرات، وفضلت اتخاذ موقفٍ مدروس وهادئ، يراعي التجربة السابقة، لكنه يقف إلى جانب حق الشعب السوري، وتطلعاته في الحرية والتحرر.
وفي ظل الواقع السابق الصعب، ومع تشكل محور إقليميٍّ، ضد مبدأ المقاومة والتحرّر بشكل عام ومساند لها، بدأت إسرائيل عدوانها على غزة، رافعةً سقف طموحاتها وأهدافها بتدمير قدرات حماس العسكريّة، ونزع سلاحها، واغتيال قادتها. لكنها فوجئت بردٍّ قوي، وبمقاومة عسكرية منضبطة، نظرت إلى الظروف الصعبة في الإقليم كفرصة لتطوير قدراتها الذاتية، بما يجعلها أكثر قدرة على خوض حربٍ طويلة ومدمرة.
ولم تمض أيام على بدء العدوان، حتى ظهرت معالم نصر المقاومة واضحة. فغالبية الدول الحليفة لإسرائيل كانت بانتظار "مبادرة سياسية"، لإنقاذها من ورطتها، وتحركت الجهود الدولية للتواصل مع دول حليفة للمقاومة، أو على تواصل معها لإنضاج المطلوب، ولاسيما أن مصر عبد الفتاح السيسي رفضت، في البداية، تقديم مبادرة، بانتظار "انتصار" إسرائيلي. ولمّا لاحت في الأفق أفكار قطرية – تركية، تتبنى شروط المقاومة الفلسطينية للتهدئة، أطلقت وزارة الخارجية المصرية "مبادرتها" المجحفة والمساندة لإسرائيل، فرفضتها المقاومة، واستمرت الحرب، وسطّرت المقاومة بطولاتٍ في كل يوم، وصولاً إلى واقع جديد، واضطرت مصر لتعديل مبادرتها، وأجبرتها على استقبال الوفد الفلسطيني الموحد، والذي يضم قيادات من حماس، من أجل التفاوض، واليد على الزناد طبعاً، لتحقيق المطالب الفلسطينية، وفك الحصار.
حزب الله يحاصر نفسه
تقودنا تجربة حماس الإبداعية، والتي أجبرت العالم على احترامها، مباشرةً، للمقارنة مع تجربة أخرى، قريبة منها، وهي تجربة حزب الله. فبخلاف حماس، اعتبر حزب الله الثورة السوريّة تهديدًا وجوديًا له، فاتخذ مواقف مؤيدة للنظام السوري بحجة "حماية المقاومة".
وتذرع حزب الله، آنذاك، ببعض الهتافات المحدودة والتصريحات الإعلامية لشخصيات معارضة، ليعلن عداءه الفج للثورة والشعب السوري، الطامح إلى التخلص من نظامه الاستبدادي.
وبدلاً من مساندة حق الشعوب في الحرية، واجتراح استراتيجيةٍ ناعمةٍ، كفتح حوار لبناني – لبناني، وحوار مع المعارضة السوريّة لمواجهة تداعياتٍ سلبيةٍ، قد تنتج في حال سقط النظام السوري، فضّل حزب الله، متسلحاً بالرغبة والدعم الإيراني، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإخماد الثورة السورية الملتهبة ووأدها، فتدخل عسكرياً في عام 2012، بشكل محدود وسري لمساعدة قوات النظام، وازداد حضوره تدريجياً مع تقدم قوات المعارضة، وقد اعترف نصر الله بأنه أنقذ النظام من سقوط محتمل بداية عام 2013 عندما كانت المعارضة على أبواب العاصمة.
ومنذ مطلع عام 2013، ومع ظهور مقاطع مصورة وفيديوهات تؤكّد مشاركته، وازدياد نعوش مقاتليه لم يعد حزب الله قادرًا على الإنكار، فأعلن نصر الله رسمياً، منتصف عام 2013، دخوله في الحرب السورية إلى جانب النظام بذرائع واهية، كحماية المقدسات الدينية والقرى الشيعية الحدودية، التصدي للخطر التكفيري، ولاحقاً حماية المقاومة في لبنان.
صحيح أن الحزب حقق انتصارات آنية في مناطق سوريّة، وسيطر على مساحاتٍ واسعة، لكن صورته، كحركة مقاومة، تهشمت في الوجدان السوري والعربي، وأضحى "قوة احتلال غازية" تنفذ أوامر إيرانية، وتحقق أهدافها.
كما أن الحزب لم يلحق هزيمة كاملة بفصائل المعارضة السوريّة حتى الآن، ونتجت عن مشاركته زيادة في الاستقطاب الطائفي في المنطقة، على خلفية الشعارات والرموز المستفزة، وهو ما استغلته حركات جهادية، مثل داعش وجبهة النصرة، لترسخ وجودها وحضورها طرفاً يواجه المشروع الإيراني الطائفي وأدواته المتمثلة في حزب الله.
وحقق حزب الله، بقصد أو بدون قصد، أهداف إسرائيل في سورية، فموقفه ومشاركته العسكرية ساهمت في حماية النظام، وإدامة الحرب المستعرة، والتي لم يتوانَ فيها النظام عن استخدام مختلف أنواع الأسلحة، فدمّر مقدرات الدولة السورية، وحطم جيشها، بعد أن زجَّ به في معركةٍ طويلةٍ ضد الشعب، وفكك المجتمع، وقسمه إلى طوائف وجماعات، وشرّد ملايين من أبنائه، وجوّع ملايين أخرى. وبخلاف ما روج عن حماية " ظهر لبنان" من الإرهاب التكفيري، لعب حزب الله وسياساته الطائفية دورًا مهماً في استحضار الإرهاب التكفيري واستجلابه، ومنحه الفرصة تلو الفرصة، ليتغلغل وينشئ خلايا، ويفعّل أخرى نائمة في لبنان.
تشييع قائد عسكري في حزب الله ممن شاركوا في القتال في سورية (14يوليو/2014/أ.ف.ب) |
وما التفجيرات التي استهدفت بيروت، والمواجهات المسلحة الجانبية التي حصلت في صيدا وطرابلس، والمواجهة الأخيرة في عرسال في منطقة القلمون، إلا نتائج مباشرة لتدخل الحزب في سورية، حتى وإن رفضت الأطراف اللبنانية الإعلان عن ذلك صراحة.
وكما هو الحال في سوريّة، اتبع حزب الله النهج ذاته في العراق، فمنذ انطلاق الاحتجاجات عام 2012، ضد حكم نوري المالكي واستبداده، وتهميشه مكونات عراقية، سارع حزب الله، وذراعه الإعلامية "قناة المنار"، إلى تبني رواية نوري المالكي، وسوَّقت له بطريقة فجة، وتحمل دلالات واستفزازات طائفية كثيرة، بوصف المنتفضين بالإرهابيين والصدّاميين، والحديث عن معركة بين "أنصار يزيد، وأنصار الحسين".
أيضًا، وبقدرة قادر، تحول نظام نوري المالكي الذي لا يختلف اثنان في العالم العربي بشأن ارتهانه وتبعيته لأميركا أو لإيران، إلى نظامٍ مقاوم، وركيزة أساسية من ركائز محور المقاومة.
وبناء عليه، أصبح واجبًا على الحزب "الدفاع عنه"، كما يفعل في سوريّة، إذ تفيد تقارير إعلامية كثيرة بأن مقاتلين منتسبين للحزب، أو مؤيدين له، ذهبوا إلى العراق لمواجهة "الإرهاب التكفيري"، استجابة لدعوة المرجع الشيعي، علي السيستاني.
ولكثرة رواية حزب الله، والإعلام التابع أو المؤيد له عن الإرهاب والأصولية السنيّة والوهابية، والفوضى والتطرف الذي خلقته الثورات، لم نعد نفرّق بين الإعلام الذي يسمي نفسه "مقاوماً" وإعلام الثورة المضادة، بل وبعض الإعلام الغربي الذي ينظر إلى العرب بفوقية وعنصرية، وتستخدمه الأنظمة الديكتاتورية جهاز دعاية.
وبالعودة للمقارنة بين التجربتين، يمكن القول:
1. خيّرت حماس بين تأييد نظام قاتلٍ أو الحرمان من الدعم، فاختارت الحرمان في سبيل الحفاظ على مبادئ التحرر وحق الشعب في الحرية. في المقابل، أيّد حزب الله نظاماً مجرماً، وزجَّ بنفسه في معركة ليست معركته، حرصاً على دعمٍ لم يثبت أنه سيحرم منه، إذا ما اصطف مع الشعب السوري، الذي كان رافعة حقيقية له، واحتضنه ودعمه، واستقبل نازحيه، وحاضنته الشعبية في أوقات الأزمات، ولم يقتلهم، ويدعو إلى طردهم، كما يفعل الحزب ومناصروه اليوم.
2. هوجمت حماس إعلامياً وسياسيّاً بما لا يحتمل، وبشكل ممنهج ومدروس، فعمدت إلى احتواء الادعاءات الباطلة، وتفنيدها، والرد عليها بحكمة ومنطق، وحرصت على "شعرة معاوية" مع أنظمة وقوى أمعنت في تشويهها.
في المقابل، لم يثبت في الحالة السورية وجود هجوم إعلامي وسياسي ممنهج ضد حزب الله في السنة الأولى للثورة، فجلّ ما كان يتمناه المحتجون، والمعارضة أيضًا، أن يصمت وينأى بنفسه عن معركةٍ بين شعب مظلوم ونظام مستبد، لكن الحزب، ركز على هتافات عفوية (بداية الثورة، زجَّ النظام بوحدة أمنية، أنشئت نهاية عام 2010، تسمى قوات التدخل السريع ومكافحة الإرهاب، لباسها أسود كلباس حزب الله، فاختلط المشهد على المحتجين السوريين، وظنوا أنها قوات تابعة لحزب الله، فظهرت شعارات خفتت لاحقاً منها؛ لا إيران ولا حزب الله) وعلى التصريحات ضده، وبدأ بحملة إعلامية مناهضة للثورة السورية ونعت المحتجين بأقدح الصفات؛ المندسون، المسلحون، العملاء، قطاع الطرق، التكفيريون، وهو ما أوجد حالة استياء عامة لدى شرائح سورية مؤيدة للثورة، اتهمت الحزب، لاحقاً، بالطائفية وبتنفيذ أوامر إيران.
3.حوصرت غزة، وحورب سكانها بلقمتهم وحياتهم لدفعهم على الانقلاب على حماس، لكن الأخيرة صبرت، ولم تفكر باحتلال دولٍ تحاصرها، أو بإرسال قواتها لفتح الحدود والمعبر عنوة، واجترحت الحلول الصعبة، وخططت للعيش والقتال في ظروف صعبة، فاستطاعت أن تصمد وتثبت وتنتصر.
في المقابل، وخشية من احتمال (لا يمكن التكهن بتحققه في ظل ظروف مغايرة) انقطاع إمدادات السلاح عبر سورية، تدخل الحزب عسكرياً ضد الثورة وزج بقواته، واحتل مناطق واسعة بذريعة "حماية المقاومة"، فخسر صورته، ورصيده الشعبي، بل يمكن القول إن حزب الله لم يكن يومًا محاصرًا ومعزولاً، كما هو الآن، فقوته العسكرية لن تفيده على المدى الطويل، في ظل استنزافه الدائم في معارك سورية والعراق.
4.اعتدت إسرائيل على غزة في مناسبات عدة، فردّت حماس وباقي فصائل المقاومة على العدوان. في المقابل، ومنذ عام 2006، اعتدت إسرائيل على لبنان وعلى حزب الله، واغتالت قيادات منه، وقصفت مواقع وقتلت مقاتلين تابعين له، لكن الحزب الذي برّد جبهته مع إسرائيل، استورد من الخطاب الرسمي السوري "حق الرد في الزمان والمكان المناسبين"، وتدريجياً بدأ حزب الله يتجنب الرد على إسرائيل مباشرة، واتجه إلى الغوغائية "الأعذارية" التي يشتهر بها خطاب النظام السوري لتبرير عدم الرد، كأن يقول "الحزب يرد على اعتداءات إسرائيل في سورية"..إلخ.
وأخيرًا، إن صفة المقاومة لا تمنحها الشعوب اعتباطيًا، وتقلدها لمن يقاتل ويقاوم المحتل ومن يتشبه به. كما أنها لا تُمنح لأبد الآبدين، وإلا وصّفت حركات كثيرة كـ"مقاومة"، استنادًا إلى تاريخها النضالي. وكان الأجدر بحزب الله ليبقى حزباً مقاومًا أن يقاوم انتهازيته في سبيل الحفاظ على مبادئ التحرر والعدالة والحرية، وكان الأجدر به، وبدلاً من أن يعبر المساحات والجغرافيا من بوابة فاطمة إلى حدود إيران من أجل "حماية المقاومة" أو "ظهرها" أن يساعد المقاومة الفلسطينية، ويحارب إسرائيل، ويساهم في رد عدوانها، فعدوه وعدونا ملاصق تماماً، ولا يحتاج قتاله ومقاومته إلى مئات المعارك الجانبية.