وَهم موسكو السوري
انتهت "دردشات" موسكو، السورية الأخيرة، بمثل ما بدأت به، بلا طعم ولا رائحة، عدا عن لقاءات هامشية بين أشخاص هامشيين سياسياً على الأقل. وحسناً فعل عدد ممن ظن، في البداية، أن من الممكن أن يلعب الدبّ الروسي، الجريح نفطياً وعزلاً دبلوماسياً وتوتراً إقليمياً وداخلياً، دور الوسيط في "حربٍ" يؤمن بأنه طرف فيها، ولو لم يكن الطرف الأساس. وقد رعاها فيتالي ناومكين، المستشرق المشهود له بعمق ثقافته العربية والمُسخّرة في تحليلاتها وفي استنتاجاتها لملاءمة سادة الكرملين مهما تغيّروا. ويُشهد له بأنه من أهم أصحاب العبارات الساخرة/الهادئة من كل الموقف المعارض السوري بمختلف تلاوينه. كما يتميّز بصمته الانتقائي ووشوشاته غير العلنية، والتي تخصّ تفاصيل يدّعي معرفتها. وربما كان على حق في الغالب، لأنه مزج بين وظيفتي الباحث/المحلل والعنصر الأمني عالي المستوى. مدرسة عالمية، لم ولن تقتصر على الروس، لكنها في حالات مختلفة أقل وضوحاً ومباشرةً و"وقاحة".
وبعيداً عن الأحكام المتسرّعة والمشخصنة بخصوص من حضر، فمن المقبول، إنسانياً على الأقل، حسن الظن بمن يسعى، بكل ما أوتي من تراجع بنيوي وفكري، إلى وقف المقتلة السورية، ولو اضطره الأمر إلى تقديم أعتى التنازلات مما لا يمتلك منه شيئاً، أو مما لا يمكنه التأثير فيه بشيء. إنه موقف إنساني مُحبّذ لمن فقد الأمل، ولمن يسعى إلى وقف سيلان الدم السوري الغالي. فمن حيث المبدأ، إذا، من رضي على نفسه المشاركة من بعض شخوص المعارضة السياسية "المعتدلة جداً"، لم يقترف أي ذنب أخلاقي أو وطني، أو ما شابه، يُحاسب عليه. ومن المؤسف أن حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بنعوتٍ وتوصيفات خارج نطاق المقبول من الخطاب.
في المقابل، تُعتبر المشاركة "سذاجة" سياسية بامتياز. وبالتأكيد، فمن خلال استعراض "الأعمال الكاملة" للمعارضات السياسية السورية، بتلاوينها المختلفة، والمتصارعة منذ اليوم الأول للمسار الثوري، لا تُعتبر هذه السذاجة إلا جزءاً من سلسلة ووفاءً لتقاليد عريقة. وأيضاً، لا يمكن أن يتمايز به شخوص موسكو عن غيرهم بنقاطٍ كثيرة. ولكن سذاجة هذه المرة سبق وأُشير إليها، وتم التنبيه منها، ممن رضي، بدايةً، الخوض في المستنقع الروسي. واستنكف هؤلاء "المُبَشّرون بالعقل" عن قبول المشاركة، حماية لما تبقى من ذكائهم المستهلك. فروسيا، عبّرت، وبصراحة منقطعة النظير، عن أنها طرف واضح في الصراع الداخلي السوري، ليس من خلال الدعم البشري والعسكري فحسب، بل بالمواقف السياسية المُتسقة والحملات الإعلامية المُحترِفة. كما أنها أدارت ظهرها للمعارضة الأقرب إليها، وتخلّت عن أية مطالبة بالإفراج عن شخوصها المعتقلين، لخوضهم في تفاوض جدي ومبني على أساس انتقال مدروس في المشهد السياسي. لم تستطع موسكو، مثلاً، وربما لم ترغب، أن تتدخل أو تضغط لإطلاق سراح المعارض عبدالعزيز الخير. وهي عملت، ومنذ البداية، على رفض الحوار الجدي حول المقتلة السورية، وسعت، أيضاً، إلى إجهاض اتفاقية جنيف الأولى، ولم تلعب إلا دور المراقب/الشريك في الثانية، ومدّت طوق النجاة بمساعدة أميركية واضحة إلى من استخدم السلاح الكيميائي ضد المدنيين في أغسطس/آب 2013.
مع ضرورة الحوار مع الروس، ومع الإيرانيين، للوصول إلى إطلاق العملية السياسية، ووقف المقتلة العبثية، لما لهما من دور أساس في استمرارها، إلا أن هذا الحوار لا يمكن أن يكون "حوار مغفّلين". ويجب أن يستند إلى معطيات السياسات المتبعة من الدولتين. أما الاعتقاد بأن موسكو قادرة على لعب دور الوسيط بين معارضة "معتدلة جداً"، أضافت إليها من لدنها معارضة "أمنية جداً" وأشخاصاً هلاميين، من جهة، والنظام السوري ضعيف التمثيل من جهة أخرى، فهذا الاعتقاد يمكن أن يُنظر إليه، إن اجتمعت كل النيات الإيجابية، على أنه قليل مدخلات الذكاء وضعيف مخرجات الوعي.
قبل أيام، جمعت في القاهرة مؤسسة، غير حكومية نظرياً وشديدة الحكومية عملياً، ممثلين عن معارضاتٍ سوريةٍ، سعياً إلى التوفيق بينها، تمهيداً لمشاركة فاعلة في "حوار" موسكو. فشل اللقاء، ولو أنه جاء في وقت مستقطع من التأثيرات الإقليمية على المعارضات السورية، في إعطاء أي سندٍ حقيقي لموقف من ارتضى المشاركة في مسرحية موسكو. وبالنتيجة، استنكف غالبية حضور القاهرة عن الذهاب إلى موسكو. حيث تم لقاء موسكو بمجموعة من الكومبارس الذين ملأوا الشاشات بابتساماتهم الجليلة، وكادوا أن يوقعوا وثيقة بالدم دعماً للنظام، بناءً على اقتراح إحدى المعارضات الآتيات من دمشق. مسرح العبث كان حاضراً في موسكو، لم يكن فيه إلا ممثل واحد أساسي، هو الروسي المبتسم سخرية، لأنه يعرف قيمة اللعب بالوقت، ومجموعة من الكومبارس، ضعيفي الأداء وكثيري الجعجعة.
هل يعترف من ارتضى على نفسه لعب هذا الدور بفشله؟ هل يعلن ندمه؟ هل يعتذر؟ إنها طلبات غرائبية عن المجتمع السياسي الطارئ، وعن شخوصه الطارئين. ولكن، أن يكتشف بعض هؤلاء، بعد عودتهم، أنهم شاركوا في مسرحية مملة ليست ذات طعم كافيار ولا رائحة فودكا، فهو دليل إضافي على استهزائهم بذكاء السوريين، ومحاولة تبرئة ذات متأخرة للغاية.