المغرب العربي وإفريقيا
المغرب العربي جزء من إفريقيا، لكن السياسة والاقتصاد تغلبا على الجغرافيا، لأن المغرب العربي منسلخ عن جسده الجغرافي، ووجهته شمالية، أوروبية بالأساس. والواضح أن نداء البحر أقوى من نداء الصحراء، بالنظر لثقل الإرث التاريخي (الاستعمار) وشبكات المصالح التي نُسجت مع مرور الزمن، وما أوجدته من تبعية لجنوب أوروبا تحديداً. لذا، ولت الدول المغاربية، عقوداً، ظهرها لأفريقيا، ولا تتذكرها إلا في المناسبات الرسمية والرياضية، أو لتصدير نزاعاتها البينية للقارة، بحثاً عن الدعم السياسي.
وما يقال عن الانتماء العربي يقال، أيضاً، عن الانتماء الأفريقي، فالدول المغاربية، مثل الدول العربية الأخرى، تُطنب في الحديث عن العروبة وغيرها، لكن مصالحها وتوجهاتها مرتبطة بمناطق غير العالم العربي. والمشهد نفسه يتكرر على المستوى الأفريقي، فالقاعدة السائدة هي القول (الخطاب) لأفريقيا والفعل (الممارسات) لغيرها. فالإقرار الدستوري بالانتماء الأفريقي لا شك فيه. ولعل الدساتير المغاربية الأكثر أفريقية هي المغربية والجزائرية. فالدستور المغربي ينص على أن المملكة المغربية "جزء من المغرب العربي الكبير. وبصفتها دولة أفريقية، فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الأفريقية". وفي الدستور الجزائري، "الجزائر جزء لا يتجزّأ من المغرب العربي الكبير، وأرض عربية، وبلاد متوسطية وأفريقية". وفي الدستور الموريتاني "الشعب الموريتاني كشعب مسلم عربي أفريقي" يسعى إلى "تحقيق وحدة المغرب العربي الكبير والأمة العربية وأفريقيا". أما ليبيا فهي بدون دستور، وكان دستورها لسنة 1951 (ألغي في 1969) فقد نص على أنها "جزء من الوطن العربي وقسم من القارة الأفريقية". ولم يشر الإعلان الدستوري الذي تبناه المجلس الانتقالي في 2011 إلى البعد الأفريقي. ونص الدس
تور التونسي السابق على أن "الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي الكبير"، وعلى تعلق شعبها بـ "التعاون مع الشعوب الأفريقية"، إلا أن الدستور الجديد (يناير/كانون الثاني 2014) اكتفى بالإشارة فقط إلى "الشعوب الأفريقية" في ديباجته: "إلى دعم الوحدة المغاربية، باعتبارها خطوة نحو تحقيق الوحدة العربية، والتكامل مع الشعوب الإسلامية والشعوب الأفريقية...". لكن، شتان بين الإقرار الدستوري بالانتماء الأفريقي والتحرك الفعلي أفريقياً وكأفارقة. فعلى الرغم من الإقرار الدستوري بالدائرة الأفريقية، كدائرة انتماء و/أو دائرة تحرك جيوسياسي، فإنها تبقى مهمشة، مقارنة بالدوائر الأخرى.
والملاحظ أن الاهتمام المغاربي بأفريقيا كان مبكراً، بفضل التضامن بين حركات التحرر والنضال من أجل الاستقلال، وبلغ ذروته في سبعينيات القرن الماضي، ليحل محله نوع من اللامبالاة باتجاه القارة السمراء، بل تهميشها والانسلاخ عنها.
ويمكن تفسير عدم الاهتمام المغاربي بأفريقيا بعدة عوامل: لا تمثل الدول الأفريقية تهديداً لأمن الدول المغاربية، على الرغم من بعض الصراعات الثنائية الظرفية (ليبيا-تشاد، موريتانيا-السنغال)؛ الانعكاسات السلبية للصراعات المغاربية البينية (لا سيما أزمة الصحراء الغربية) على أفريقيا؛ ارتباط الدول المغاربية، مثل الدول الأفريقية، ولكن، عبر أطر تعاونية خاصة بأوروبا.
ولم تلتفت الدول المغاربية بجدية إلى جوارها الأفريقي، إلا مع انتشار الإرهاب في الساحل، وتنامي الهجرة السرية الأفريقية، خصوصاً بداية من مطلع العقد الحالي، وإن كانت الجزائر قد اهتمت بجوارها الساحلي، بالنظر إلى وساطتها في الأزمات التي هزت مالي والنيجر (تمرد الأزواد) – لتتذكر الدول المغاربية أفريقيتها متجاوزة مرحلة الفراغ الإدراكي والاهتمام الرمزي، وفي المناسبات بأفريقيا (اختزالها في مؤتمرات وقمم منظمة الوحدة الأفريقية، ثم سليلها الاتحاد الأفريقي).
تتسم العلاقة المغاربية-الأفريقية بجدلية الفصل والوصل، فعلى الرغم من أفريقيته جغرافياً، فإن المغرب العربي منفصل عن أفريقيا، على أكثر من صعيد. فبعد مرحلة الوصل-الالتحام للسنوات الأولى من الاستقلال حتى منتصف السبعينيات، دخلت العلاقة مرحلة الفصل التي تعمقت تدريجياً، موازاة مع تطور البناء الأوروبي، وترسخ تبعية المغرب العربي الاقتصادية حياله. وعليه، فهذه العلاقة مرهونة بدور الوسيط الأوروبي. فكلما زاد "الالتحام" مع أوروبا، زاد الابتعاد عن أفريقيا، بمعنى أن حركة الفصل والوصل تحددها، أيضاً، طبيعة العلاقة مع أوروبا. طبعاً، لو اكتفينا بالمقياس المؤسساتي، لكان التحليل خاطئاً، لأن الدول المغاربية، باستثناء المغرب، ناشطة في الاتحاد الأفريقي. لكن الواقع لا تصنعه الانتماءات المؤسساتية الهيكلية، وإنما السلوكيات والمصالح والانعكاسات العملية للالتزامات المؤسساتية.
وبما أن المغرب العربي فشل إقليمياً (تكوين كيان إقليمي)، فلا يمكنه أن ينجح في العلاقات بين الأقاليم، أو التجمعات الدولية. لذا، عوض أن يكون هو الوسيط سياسياً واقتصادياً بين أفريقيا وأوروبا، فسح المجال للأخيرة لتفصل بينه وبين عمقه القاري، إلى درجة أنه يصعب، أحياناً، فهم العلاقات بين دول مغاربية وأفريقية، بمعزل عن علاقاتها بقوى أوروبية. وحتى في مجال النقل الجوي، غالباً ما يمر السفر إلى أفريقيا عبر عواصم أوروبية، لقلة الخطوط المباشرة بين العواصم المغاربية والأفريقية. هكذا أصبح الدور الأوروبي الوسيط عاملاً محدداً للعلاقة المغاربية-الأفريقية، مع التحول التدريجي للمغرب العربي إلى نوع من الجدار العازل بين أفريقيا وأوروبا، نزولاً عند رغبة أوروبا الساعية إلى جعله درعاً يقيها من تدفقات المهاجرين الأفارقة. حيث عملت أوروبا على نقل معايير أمنية، فيما يتعلق بمحاربة الهجرة، وعلى التأثير على القوانين المغاربية، حتى يتم تجريم الهجرة وأمننتها (جعلها مسألة أمنية)، ودفع دول مغاربية إلى إقامة مراكز لإيواء المهاجرين الأفارقة، للحيلولة دون عبورهم إلى أوروبا، لتكتمل بذلك عملية المناولة الأمنية في مجال محاربة الهجرة، تقوم بها دول مغاربية لصالح أوروبا، ولتقيم أوروبا "جداراً" بين المغرب العربي وعمقه الأفريقي. بيد أن الرياح الأمنية للساحل والصحراء (ومصدرها فواعل غير دولتية بالأساس) تجري بما لا تشتهيه السفن السياسية الأوروبية والمغاربية... فبمقدار ما تساعد التهديدات الجديدة الفواعل الدولتية الأوروبية على جعل المغرب العربي درعاً يقيها مما هو آتٍ من أفريقيا، بقدر ما تحد من فك الترابط بين الإقليم المغاربي وعمقه الأفريقي، وتجعل الأمن في الساحل والصحراء من أمن المغرب العربي أيضاً.