في أهمية تقرير بديل للتسلطية
قاعدة منهجية بسيطة تجعلنا نقول دائماً الأهداف والوسائل، وليس الوسائل والأهداف، لأن طبيعة الهدف هي ما يحدد الوسيلة الواجبة لتحقيقه. بمعنى أن الرؤية الاستراتيجية يجب أن تسبق التحرك العملي، وإلا تنفلت الأمور، وربما يكون الوضع الجديد أسوأ من الوضع القديم في معظم جوانبه. وهذا أمر غير طبيعي، لأن التغيير يكون دائماً قصد تحسين الوضع، وليس العودة إلى الوراء. وقد يكون التغيير جزئياً، أي مجرد إصلاح، أو كلياً، أي عملية تغيير شاملة، تأتي على النظام القائم. والثورات والانتفاضات الشعبية تندرج، عموماً، ضمن الخانة الثانية، أي أنها تأتي لتغيير الوضع القائم، بعد أن استعصى الإصلاح وانسد الأفق... ومن ثم يجب أن يكون الهدف محدداً بدقة؛ ليس فقط تغيير الوضع القائم، وإنما تحديد البديل الذي سيحل محله، وهنا بيت القصيد، ومكمن المعضلة السياسية.
وإذا كان هدف "ثورات" الربيع العربي تغيير النظام هدفاً لإحلال الديمقراطية محله، فإن الوضع يختلف في واقع الحال من بلد إلى آخر. فالنموذج التونسي يتناسب وهذه المقاربة، بينما سار النموذجان، الليبي والمصري، على منهجين مختلفين. والأسباب عديدة، من أهمها إشكالية العلاقة بين المقدس والمدنس، وإشكالية العلاقة بين العسكري والمدني (غلبة السلطة المدنية على العسكرية)، فضلاً عن التفاعل بينهما، وعملية التوظيف السياسي، وتختلف تونس عن غيرها، لأن الإشكاليتين تطرحان بحدة منخفضة للغاية، بل الإشكالية الثانية غائبة عن مشهدها السياسي.
ومن ثم، الحسم، ولو جزئياً، في الإشكاليتين سهل عملية الانتقال الديمقراطي، وجعلها سلسلة، بينما لم يكن الأمر كذلك في مصر التي شهدت ردة انتقالية، سمحت بإعادة النظام القديم بحلة جديدة. وفي ليبيا، تحولت "الثورة"، التي أفسدها التدخل العسكري الأجنبي في مهدها بعد أن أفسدتها عسكرتها المحلية، إلى حرب أهلية، قادت إلى تشكيل دولة المليشيات. والعبرة من هذا كله أنه، قبل البدء في تغيير النظام القائم، يجب تحديد معالم النظام القادم ومضامينه، وإلا سيكون الصراع على أشده على السلطة، وتبقى الشعوب تتأرجح بين نماذج تسلطية فرعية غير مستقرة، قد تولد، مع مرور الوقت، قناعة بأن فتنة التغيير أشد من فتنة الإذعان للحاكم الجائر، كما تروج ذلك القوى المعادية للتغيير في العالم العربي، مستدلة بالوضع في ليبيا وسورية.
وعليه، التفكير والإجماع مسبقاً في طبيعة النظام المنشود (بعد التغيير) في غاية الأهمية، وإلا سَيُفسد التغيير، وتكون عواقبه وخيمة. فلا معنى للاستقلال لمجرد الاستقلال، وإسقاط النظام لمجرد إسقاطه لا معنى له. فتوضيح الغاية ضروري، لأن الخلاف حول المقدمات يقود، حتماً، إلى الخلاف حول النتائج.
تذكّرنا هذه الإشكالية بخاتمة الرائد النهضوي، عبد الرحمن الكواكبي، في ما يخص التخلص من الاستبداد، حيث يسوق الكواكبي قاعدة أساسية في هذا الشأن: "يجب، قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد (هو أن معرفة الغاية، ولو إجمالاً شرط طبيعي للإقدام على كل عمل)، لكن المعرفة الإجمالية، في هذا الباب، لا تكفي مطلقاً، بل لا بد من تعيين المطلب تعييناً واضحاً موافقاً لرأي الكل، أو لرأي الأكثرية (…)، وإلا فلا يتم الأمر؛ حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعاً، يكون الإقدام ناقصاً نوعاً، وإذا كانت مجهولة بالكلية عند كل قسم من الناس، أو مخالفة رأيهم، فهؤلاء ينضمون إلى المستبد، فتكون فتنة شعواء (…) ثم إذا كانت الغاية مبهمة في الأول، فلا بد أن يقع الخلاف في الآخر، فيفسد العمل أيضاً (…). ولذلك، يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص، وإشهارها بين الناس، والسعي في استحصال رضاهم بها، بل حملهم على النداء بها، وطلبها من عند أنفسهم (…)، والحاصل أن من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يُراد ويمكن أن يُستبدل بها الاستبداد، وليس هذا بالأمر الهين…"
عدم العمل بهذه القاعدة قاد ويقود إلى صراعات دموية. فالأزمة الجزائرية، في العقد الأخير من القرن الماضي، تُظهر بشكل مريع أنه لم يتم التقرير، بإجماع الأغلبية المسبق، في شكل الحكم الذي سيخلف النظام القائم، فكان العنف الواسع النطاق. قطاع كبير ممن ساندوا جبهة الإنقاذ الإسلامية، في بداية الأزمة، إنما فعلوا ذلك كرهاً في جبهة التحرير الوطني (الحزب الواحد سابقاً والحاكم آنذاك)، وليس حباً في جبهة الإنقاذ. إنها عودة درامية للقول المأثور "لا حباً في علي. ولكن، كرهاً في معاوية". وبما أن المشهد السياسي لم يكن يتوفر فيه إجماع على القاعدة الأساسية التي أشار إليها الكواكبي، كانت الفتنة. والوضع في ليبيا يوضح مجدداً وبشكل درامي، أيضاً، مدى خطورة الأمر في حال عدم الاتفاق على الغاية النهائية. فإذا كان الجميع اتفق على إسقاط نظام القذافي، فإن التيارات التي انخرطت في الحرب عليه بمثابة فسيفساء لا يجمعها إلا شيء واحد، هو التخلص من النظام القائم، وهذا غير كاف على الإطلاق لإنجاح "الثورة".