25 اغسطس 2024
حكايات من سجن تدمر
بمناسبة تفجير تنظيم داعش الإرهابي سجن تدمر العسكري، يوم السبت الثلاثين من مايو/أيار الماضي، أخذنا، نحن السوريين، نتذكّر الويلات، والمآسي، والقصص الخيالية التي كانت تصل إلينا من ذلك المكان:
لعل من أبرز الشخصيات التي ساهمت في ترسيخ البطش والاستبداد، خلال حكم الأسد الأب، ضابطٌ صغير برتبة نقيب، اسمه فيصل غانم، من قرية تدعى "بيت عليان" في محافظة طرطوس، كان يتخذ من تعذيب السجناء وإذلالهم شغلاً، وهواية، ومنهجاً، وديدناً،.. وقد بقي مديراً لهذا السجن الرهيب حتى 1984.
لم يكن فيصل غانم، من حيثُ المبدأ، يأتي بشيء من عنديَّاته، فما تناقلته الألسنُ وتلقته الآذان أن نظام الأسد كان قد أرسل إلى تدمر تشكيلة واسعة من معتقلي الرأي، بدءاً بحزب العمل الشيوعي، والمكتب السياسي للحزب الشيوعي (رياض الترك)، وحزب البعث العربي الاشتراكي اليميني (جماعة العراق)، وجماعة الإخوان المسلمين، وحزب الطليعة، وغيرهما من الأحزاب الإسلامية، وقال لإدارة السجن: خذوهم هؤلاء الرجال بلا سجلات، وبلا قيود، واعلموا أنه لن يطالبكم بهم أحدٌ ما حييتم، أو، كما يقول صاحب البيت لضيوفه: على حسابكم.. صحتين على قلوبكم.
لم تكن عادةُ زيارة أهالي السجناء لأبنائهم متبعةً في كل سجون أمن الدولة، باستثناء سجن صيدنايا الذي كانَ مُراقَبَاً من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، ومن ثم، كان السجين السوري يموت، ويعيش، ويمرض، ويشفى، ويعجز، ويتخّ في السجن، ويموت موتاً طبيعياً، أو يُشنق، أو يقصف بالطيران الحربي، من دون أن يدري به أحد.
ومن حكايات السوريين الطريفة أن السيدة أم فيصل، والدة مدير سجن تدمر، قد جَمَعَتْ كميات كبيرة من الذهب في أثناء تولي ابنها الإدارة. وكانت تعمل على النحو الآتي: تذهب إليها زوجة أحد المعتقلين أو أمه أو ابنته، ومعها قطعة ذهب عيار 21، وتطلب منها تأمين زيارة الأسرة للسجين، فتقول لها بشمم:
- اتركي ذهبك معك، يا أختي، فنحن لا نأكل الحرام!.. أملي علي اسم سجينك لنرى.
فتمليه عليها، وتكتب هي رسالة إلى ولدها الغالي، تسأله: هل هذا السجين عندكم؟ (وهي تقصد: هل هذا السجين ما يزال على قيد الحياة، أم أنكم قتلتموه؟).. فإذا أتاها الجواب بـ "نعم"، تأخذ الهدية الذهبية، وتعطي للمرأة ورقة عليها اسم السجين وأسماء أفراد الأسرة طالبي الزيارة... إلخ.
وكان صديقي (مالك أ..)، من حزب العمل، الذي أمضى 14 سنة هناك، قد أكد لي أن فيصل غانم لم يكن يداوم يومياً في السجن، بل يزوره مرة كل بضعة أيام، وقد جرت العادةُ أن (يُضَحِّي) له الجلادون بواحد من السجناء، يختارونه، على الأغلب، من الإسلاميين. وكانوا من الذكاء وسعة المخيلة، بحيث إنهم لم يقتلوا اثنين من السجناء بالطريقة نفسها، وإني لأخشى على القراء الأعزاء من نقل تفاصيل ما وصفه لي، لئلا يروا كوابيس في النوم، مثلما حصل معي بعدما سمعتها منه.. وأما تتمة الحكاية فتسير على النحو التالي: يرفس أحد الجلادين باب المهجع الكبير بقدمه، يفتح النوبتجي الباب، يرى الجثة فيسحبها إلى الداخل، ويغلق الباب، وبعد قليل، يفتح الباب ويُبلغ الجلادين أن هذا السجين توفى.
ومن أطرف ما جرى مع فيصل غانم، كما حدثني الصديق محمد برو، أنه جاء يعايد المساجين في مناسبة الحركة التصحيحية، فكان، يومها، لطيفاً، على خلاف عادته، يتودد للسجناء، ويسألهم عن معاناتهم. فلما قال له أحدهم إنه هنا منذ سبع سنوات بلا محاكمة، وإن القاضي سليمان الخطيب قد حاكمه، قبل خمسة أشهر، وأصدر حكمه ببراءته، ومع ذلك أعيد إلى هنا، وهو لا يدري إلى متى سيبقى، طبطب على كتفه بحنان وقال له:
- يا ابني لا تهتم، والله لو تبقى هنا مائة سنة ستخرج.