29 سبتمبر 2024
"العلوية السياسية" وصادق جلال العظم
شاع تعبير "العلوية السياسية" في سورية، منذ حوالى سنتين، وحاز هذا التعبير على قوة انتشاره، ليس من قيمة معرفية يؤديها (فهو تعبير هزيل معرفياً كما سيحاول أن يقول هذا المقال)، بل من قيمة الأستاذ صادق جلال العظم الذي أطلقه، ومن الجاذبية الخاصة التي يتمتع بها الحديث عن الطوائف والطائفية في سورية عموماً.
لا شك أن الصراع السياسي، ولاسيما المحتدم منه كما الحال في سورية اليوم، لا يعبأ بالقيمة المعرفية للتعابير، بقدر ما يعبأ بالوظيفة الايديولوجية لها. ومن المستبعد أن يكون العظم قد أطلق هذا التعبير بدافع إيديولوجي، فهو رجل يعمل في الحقل المعرفي، وليس السياسي، غير أن هذا التعبير، مثل كل التعابير الأخرى التي تحوز على قوة انتشار، لسبب أو لآخر، يقوم بوظيفة إيديولوجية مستقلة عن غاية مطلقها، وأحياناً على العكس مما يريد.
لم يكن العظم موفقاً في نسج هذا التعبير على منوال "المارونية السياسية"، كما أظهر زياد ماجد في مقال له في صحيفة الحياة في 30 إبريل/نيسان 2014 بعنوان (عن العلوية السياسية والمارونية السياسية). ولكن، بعد الشرح الذي قدمه الأستاذ العظم لهذا التعبير، يبدو الأمر أسوأ من كونه مقارنة غير موفقة مع المارونية السياسية. وكان المرء يتوقع أن يقوم العظم بمراجعة لتعبيره هذا، بعد نقد كثير طاله، فإنه، في مقابلة مع DW، أخيراً، بمناسبة نيله ميدالية غوته، يعيد قول ما قاله بتكرار شبه حرفي، ويضيف عليه "تجربة ذهنية"، تزيد من ضحالة التعبير، وتجعله أداة إيديولوجية في يد من يراهم العظم نماذج من "العفش المتخلف" الذي كشفه الربيع العربي.
يقول العظم في مقابلته: "هل بإمكانك أن تتصور سيادة الوضع التالي في مصر: رئيس الجمهورية قبطي إلى الأبد، قائد الجيش قبطي إلى الأبد، أُمراء ضباط القوات المسلحة في غالبيتهم أقباط وإلى الأبد، رؤساء الفروع الأمنية والشرطة وقوات حفظ النظام أقباط كلهم وإلى الأبد، المناصب الحساسة والعليا وصاحبة القرار في مفاصل الدولة كلها بيد نخب من الأقلية القبطية؟ هل بإمكانك أن تتصور كذلك، احتكار هذه المناصب والوظائف كلها في تركيا مثلاً من نخب كردية أو علوية حصراً وإلى الأبد؟ هذا الوضع غير القابل للتصور في مصر وتركيا هو القائم في سورية منذ عقود طويلة. هذا هو المعنى الأول للعلوية السياسية".
إذا كان الجهد المعرفي يسعى إلى كشف ما وراء الواقع الاجتماعي من علاقات تحكمه، وتختفي فيه، فإن العظم يسجل في قوله هذا "ظاهرية" صريحة. بحسب العظم، تصبح المشكلة في الأشخاص، وليس في العلاقات التي تتطلب وجودهم في مفاصل الدولة ونقاطها الحساسة، ويصبح الحل، تلقائياً، في استبدال الأشخاص بآخرين من منابت أخرى، هي هنا المنبت الأكثري (الإسلامي في مصر، والتركي في تركيا، والسني في سورية بطبيعة الحال).
طالما عانى الشعب المصري، وثار على النظام وطالب بإسقاطه، على الرغم من غياب "القبطية السياسية"، وعلى الرغم من انتماء رموز النظام ومفاصله الأساسية إلى الأكثرية المسلمة. صحيح أن احتكار المفاصل الأساسية في الدولة لصالح أفراد من منبت مذهبي، أو عرقي معين، مؤشر على خلل مهم في آلية إنتاج السلطة، وينطوي على تلغيم أكيد لمستقبل البلد، لكن المشكلة الفعلية ليست في منبت الأفراد، بل في وظيفتهم، ووظيفتهم هذه مشدودة بدورها إلى علاقات سياسية، تكرس سيطرة طغمة حاكمة، وتشلّ أسباب القوة لدى أصحاب المصلحة في التغيير.
إذا دفعنا التمرين الذهني للأستاذ العظم خطوة أخرى إلى الأمام، سنجد ما هي الوظيفة الأيديولوجية التي يخدمها ولصالح من. المناصب والوظائف محتكرة لأشخاص علويين في سورية منذ عقود و"إلى الأبد"، هذه هي العلوية السياسية بحسب العظم. يغيب عن هذا تحديد أي كلام عن شكل الحكم وعن تعطيل آليات انتقال موازين القوى الاجتماعية إلى السلطة السياسية، ويبدو كما لو أن ما دفع إلى الثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن (حيث لا توجد "علوية سياسية") يختلف عما دفع للثورة في سورية. وحين يضيف العظم إن "المطلوب هو إطاحة العلوية السياسية" يُفهم منه أن المطلوب هو استبدال أشخاص ينتمون لأقلية، بأشخاص ينتمون للأكثرية، حتى لو أدوا الوظيفة نفسها، وانخرطوا في العلاقات السياسية الإقصائية نفسها. هذا في الواقع يفرغ الثورة السورية من معناها الديموقراطي، ويفتح الباب لقبول مشاريع إسلامية، لا تريد أكثر من إسقاط ما تعتبره "نظاماً علوياً" لإقامة "نظام إسلامي"، تراه الحل. تلك هي الوظيفة الإيديولوجية لهذا التعبير، وهي وظيفة لا يمكن الشك في أن العظم، قياساً على نتاجه الفكري السابق، يريد خدمتها.
لا شك أن الصراع السياسي، ولاسيما المحتدم منه كما الحال في سورية اليوم، لا يعبأ بالقيمة المعرفية للتعابير، بقدر ما يعبأ بالوظيفة الايديولوجية لها. ومن المستبعد أن يكون العظم قد أطلق هذا التعبير بدافع إيديولوجي، فهو رجل يعمل في الحقل المعرفي، وليس السياسي، غير أن هذا التعبير، مثل كل التعابير الأخرى التي تحوز على قوة انتشار، لسبب أو لآخر، يقوم بوظيفة إيديولوجية مستقلة عن غاية مطلقها، وأحياناً على العكس مما يريد.
لم يكن العظم موفقاً في نسج هذا التعبير على منوال "المارونية السياسية"، كما أظهر زياد ماجد في مقال له في صحيفة الحياة في 30 إبريل/نيسان 2014 بعنوان (عن العلوية السياسية والمارونية السياسية). ولكن، بعد الشرح الذي قدمه الأستاذ العظم لهذا التعبير، يبدو الأمر أسوأ من كونه مقارنة غير موفقة مع المارونية السياسية. وكان المرء يتوقع أن يقوم العظم بمراجعة لتعبيره هذا، بعد نقد كثير طاله، فإنه، في مقابلة مع DW، أخيراً، بمناسبة نيله ميدالية غوته، يعيد قول ما قاله بتكرار شبه حرفي، ويضيف عليه "تجربة ذهنية"، تزيد من ضحالة التعبير، وتجعله أداة إيديولوجية في يد من يراهم العظم نماذج من "العفش المتخلف" الذي كشفه الربيع العربي.
يقول العظم في مقابلته: "هل بإمكانك أن تتصور سيادة الوضع التالي في مصر: رئيس الجمهورية قبطي إلى الأبد، قائد الجيش قبطي إلى الأبد، أُمراء ضباط القوات المسلحة في غالبيتهم أقباط وإلى الأبد، رؤساء الفروع الأمنية والشرطة وقوات حفظ النظام أقباط كلهم وإلى الأبد، المناصب الحساسة والعليا وصاحبة القرار في مفاصل الدولة كلها بيد نخب من الأقلية القبطية؟ هل بإمكانك أن تتصور كذلك، احتكار هذه المناصب والوظائف كلها في تركيا مثلاً من نخب كردية أو علوية حصراً وإلى الأبد؟ هذا الوضع غير القابل للتصور في مصر وتركيا هو القائم في سورية منذ عقود طويلة. هذا هو المعنى الأول للعلوية السياسية".
إذا كان الجهد المعرفي يسعى إلى كشف ما وراء الواقع الاجتماعي من علاقات تحكمه، وتختفي فيه، فإن العظم يسجل في قوله هذا "ظاهرية" صريحة. بحسب العظم، تصبح المشكلة في الأشخاص، وليس في العلاقات التي تتطلب وجودهم في مفاصل الدولة ونقاطها الحساسة، ويصبح الحل، تلقائياً، في استبدال الأشخاص بآخرين من منابت أخرى، هي هنا المنبت الأكثري (الإسلامي في مصر، والتركي في تركيا، والسني في سورية بطبيعة الحال).
طالما عانى الشعب المصري، وثار على النظام وطالب بإسقاطه، على الرغم من غياب "القبطية السياسية"، وعلى الرغم من انتماء رموز النظام ومفاصله الأساسية إلى الأكثرية المسلمة. صحيح أن احتكار المفاصل الأساسية في الدولة لصالح أفراد من منبت مذهبي، أو عرقي معين، مؤشر على خلل مهم في آلية إنتاج السلطة، وينطوي على تلغيم أكيد لمستقبل البلد، لكن المشكلة الفعلية ليست في منبت الأفراد، بل في وظيفتهم، ووظيفتهم هذه مشدودة بدورها إلى علاقات سياسية، تكرس سيطرة طغمة حاكمة، وتشلّ أسباب القوة لدى أصحاب المصلحة في التغيير.
إذا دفعنا التمرين الذهني للأستاذ العظم خطوة أخرى إلى الأمام، سنجد ما هي الوظيفة الأيديولوجية التي يخدمها ولصالح من. المناصب والوظائف محتكرة لأشخاص علويين في سورية منذ عقود و"إلى الأبد"، هذه هي العلوية السياسية بحسب العظم. يغيب عن هذا تحديد أي كلام عن شكل الحكم وعن تعطيل آليات انتقال موازين القوى الاجتماعية إلى السلطة السياسية، ويبدو كما لو أن ما دفع إلى الثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن (حيث لا توجد "علوية سياسية") يختلف عما دفع للثورة في سورية. وحين يضيف العظم إن "المطلوب هو إطاحة العلوية السياسية" يُفهم منه أن المطلوب هو استبدال أشخاص ينتمون لأقلية، بأشخاص ينتمون للأكثرية، حتى لو أدوا الوظيفة نفسها، وانخرطوا في العلاقات السياسية الإقصائية نفسها. هذا في الواقع يفرغ الثورة السورية من معناها الديموقراطي، ويفتح الباب لقبول مشاريع إسلامية، لا تريد أكثر من إسقاط ما تعتبره "نظاماً علوياً" لإقامة "نظام إسلامي"، تراه الحل. تلك هي الوظيفة الإيديولوجية لهذا التعبير، وهي وظيفة لا يمكن الشك في أن العظم، قياساً على نتاجه الفكري السابق، يريد خدمتها.