08 نوفمبر 2024
من مشاهد دمشقية
كان المشهد الثقافي في دمشق، مطلع العام 2013 قد انهار تماماً، من حيث إيمان المشتغلين بعدم جدوى الفعاليات الثقافية، والدم لا يغادر عناوين النظام ومؤسساته، بعد مرور أشهر قليلة على مجزرة داريا في أغسطس/ آب 2012، وتصفية "خلية الأزمة" بتفجير "الأمن القومي" وسط العاصمة. الرعب يجتاح الشوارع، الحواجز الأمنية بدأت تتناسل، وشاشة إعلام النظام تدخل في شحّ قناعة لتبرير جرائم سلطات الأسد وأحزابه الرديفة. لا ضيوف يقتربون من مبنى التلفزيون، خوفاً من ردة فعل الشارع. أوراق الاتهام مختلطة، ولا صوت سوى للترقب: ماذا سيحدث؟
هنا، ذهب مثقفون سوريون، لم يتبنوا خطاباً واضحاً بشأن الثورة السورية، سعى معظمهم إلى تلميع صورته "دفاعاً عن الحياة" حسب وصف أحد هؤلاء، ذهبوا ليبتكروا منابر ثقافية أهلية "معقمة"، حاولت أن تهرب "تاريخياً" من لعنة تحوّل العمل الثقافي إلى دائرةٍ حكوميةٍ مشروطةٍ بقوانين وأنظمة تراهن على التحشيد، بدل تنوع الفكر والمعتقد والانتماء الليبرالي. قامت منابر في مقاهٍ وسط دمشق، يعزفون فيها الموسيقى، ويقرأون الشعر ويوقعون الكتب الجديدة، من دون أن يكون هناك رعاية لأي هيئة "رسمية" للنظام. انتشر هذا التقليد أسابيع، من دون انتباه وزير الثقافة، حتى أن أحد معاونيه الذي يشغل الآن منصب رئيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق قال لي شخصياً: "لو كان الأمر قراراً خاصاً بي لدعمت ملتقى أضواء المدينة الثقافي مالياً، ولمنحت المشاركين فيه مكافآت... واقترحتُ ذلك... ولكن.... آه آه"، ها هو اليوم في منصبٍ يمكن أن يدعم الشباب والملتقيات، ولكن على طريقة السلطة، و"محاشي" شعاراتها التي حولت المؤسسات الثقافية إلى جمعيات خيريةٍ، تجند أمناء الفرق الحزبية وسائقي سيارات الأفرع الأمنية للتناوب على حضور أمسيات الشعر الخارجة عن المألوف تلك، ونقل الصورة وتسجيل ما يقرأ لتبقى "تحت السيطرة".
مثلاً، اختارت أجهزة الرقابة الناعمة، حزباً "معارضاً" من أحزاب النظام، لتوكل له مهمة دعم أحد تلك الملتقيات، مالياً وإعلامياً، فاخترع هذا الحزب مهرجاناً وجوائز، تغيب عنها صورة بشار الأسد، ويحضر علم الجيش السوري وشعراؤه ومطربوه. ملتقى وسط دمشق يسمح فيه للشباب من قوات "الدفاع الوطني" الموالية للأسد، بالحضور مع المسدسات النارية وأحيانا الثياب العسكرية، فيتحوّل الملتقى إلى ساحة لتبادل التحيات بين "الدفاع الوطني لحي الدويلعة" مع "كتائب البعث لحي جرمانا". وعلى هواء القصائد وتصفيق الحضور الذي انقسم إلى شعراء لم يجدوا من يسمعهم في وزارة الثقافة وكتّاب لم تسدّ رمقهم صفحات جريدة "الأسبوع الأدبي" لامتلائها بترّهات "النصر".
ربما نجا ملتقى أو اثنان من سيطرة تلك الأجواء. كانت اللقاءات نصف شهرية أو غير معلنة، فوجد النظام حلاً لدحر المسؤولين عنها بملاحقتهم من أجل الالتحاق الإجباري بجيشه، أو إيصال رسائل تهديد مباشرة باعتقالهم تحت بند "تجمع سري مشبوه"، ولك أن تضع تهمة من قبيل "قراءة قصائد تدعم حراك الإرهابيين معنوياً"، أو "هذا الملتقى يقرأ لشاعر معارض أو يتذكر قصص كاتب كان سجيناً سياسياً" (!)، فيقوم المشرفون، مثلاً، بدعوة معاون مدير التلفزيون الذي يعمل "شاعراً" في أوقات الفراغ ليقيم أمسية شعرية، مزيلاً "شبهة" هذا الملتقى عن وجه الإعلام الرسمي، وذلك بعد تسجيل ساعة الملتقى وبثها على التلفزيون، لـ "هضم" هذه المحاولات الأهلية التي سعى إليها بعض الشباب السوري في دمشق، فلم تكن مستقلةً عن خطاب النظام الذي أرادها خطوة "إصلاحية ثقافية"، كما يصفها أحد المشرفين على تلك الملتقيات، حيث تورّط بالظهور على شاشة التلفزيون الرسمية، وعليه أن يتحدث ثلاثين دقيقة عن نشاط الملتقيات، وفي اعتباره أن ثمة عشرات المخبرين ينتظرون إشارته غير المباشرة عن "ثقافة" جديدة، نجحت بالوصول إلى الناس، من دون فضل أجهزة السلطة الثقافية وقادتها.
تضاءلت أحلامنا قبل عامين، بالانزواء بعيداً عن خطوط التماس، نرثي خيبات الثقافة التي أنتجت صمتاً مخيفاً، وسط أدلجة الثقافة مديح "البوط العسكري" الذي يدوس على المبادرات الأهلية، لأنه على "حق"، حين يدافع عن وجود الطغاة فوق صدور المنابر الهاربة من نعوش ثقافة النظام السوري، و"منتفعاتها". هناك اغتيلت أية مبادرة لا تدبغها "الوطنية"، ولا تفوح منها رائحة "الشعب الذي يشرب دماً"، كما كان يردد الموالون للأسد في ساحة السبع بحرات في دمشق الحواجز.
هنا، ذهب مثقفون سوريون، لم يتبنوا خطاباً واضحاً بشأن الثورة السورية، سعى معظمهم إلى تلميع صورته "دفاعاً عن الحياة" حسب وصف أحد هؤلاء، ذهبوا ليبتكروا منابر ثقافية أهلية "معقمة"، حاولت أن تهرب "تاريخياً" من لعنة تحوّل العمل الثقافي إلى دائرةٍ حكوميةٍ مشروطةٍ بقوانين وأنظمة تراهن على التحشيد، بدل تنوع الفكر والمعتقد والانتماء الليبرالي. قامت منابر في مقاهٍ وسط دمشق، يعزفون فيها الموسيقى، ويقرأون الشعر ويوقعون الكتب الجديدة، من دون أن يكون هناك رعاية لأي هيئة "رسمية" للنظام. انتشر هذا التقليد أسابيع، من دون انتباه وزير الثقافة، حتى أن أحد معاونيه الذي يشغل الآن منصب رئيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق قال لي شخصياً: "لو كان الأمر قراراً خاصاً بي لدعمت ملتقى أضواء المدينة الثقافي مالياً، ولمنحت المشاركين فيه مكافآت... واقترحتُ ذلك... ولكن.... آه آه"، ها هو اليوم في منصبٍ يمكن أن يدعم الشباب والملتقيات، ولكن على طريقة السلطة، و"محاشي" شعاراتها التي حولت المؤسسات الثقافية إلى جمعيات خيريةٍ، تجند أمناء الفرق الحزبية وسائقي سيارات الأفرع الأمنية للتناوب على حضور أمسيات الشعر الخارجة عن المألوف تلك، ونقل الصورة وتسجيل ما يقرأ لتبقى "تحت السيطرة".
مثلاً، اختارت أجهزة الرقابة الناعمة، حزباً "معارضاً" من أحزاب النظام، لتوكل له مهمة دعم أحد تلك الملتقيات، مالياً وإعلامياً، فاخترع هذا الحزب مهرجاناً وجوائز، تغيب عنها صورة بشار الأسد، ويحضر علم الجيش السوري وشعراؤه ومطربوه. ملتقى وسط دمشق يسمح فيه للشباب من قوات "الدفاع الوطني" الموالية للأسد، بالحضور مع المسدسات النارية وأحيانا الثياب العسكرية، فيتحوّل الملتقى إلى ساحة لتبادل التحيات بين "الدفاع الوطني لحي الدويلعة" مع "كتائب البعث لحي جرمانا". وعلى هواء القصائد وتصفيق الحضور الذي انقسم إلى شعراء لم يجدوا من يسمعهم في وزارة الثقافة وكتّاب لم تسدّ رمقهم صفحات جريدة "الأسبوع الأدبي" لامتلائها بترّهات "النصر".
ربما نجا ملتقى أو اثنان من سيطرة تلك الأجواء. كانت اللقاءات نصف شهرية أو غير معلنة، فوجد النظام حلاً لدحر المسؤولين عنها بملاحقتهم من أجل الالتحاق الإجباري بجيشه، أو إيصال رسائل تهديد مباشرة باعتقالهم تحت بند "تجمع سري مشبوه"، ولك أن تضع تهمة من قبيل "قراءة قصائد تدعم حراك الإرهابيين معنوياً"، أو "هذا الملتقى يقرأ لشاعر معارض أو يتذكر قصص كاتب كان سجيناً سياسياً" (!)، فيقوم المشرفون، مثلاً، بدعوة معاون مدير التلفزيون الذي يعمل "شاعراً" في أوقات الفراغ ليقيم أمسية شعرية، مزيلاً "شبهة" هذا الملتقى عن وجه الإعلام الرسمي، وذلك بعد تسجيل ساعة الملتقى وبثها على التلفزيون، لـ "هضم" هذه المحاولات الأهلية التي سعى إليها بعض الشباب السوري في دمشق، فلم تكن مستقلةً عن خطاب النظام الذي أرادها خطوة "إصلاحية ثقافية"، كما يصفها أحد المشرفين على تلك الملتقيات، حيث تورّط بالظهور على شاشة التلفزيون الرسمية، وعليه أن يتحدث ثلاثين دقيقة عن نشاط الملتقيات، وفي اعتباره أن ثمة عشرات المخبرين ينتظرون إشارته غير المباشرة عن "ثقافة" جديدة، نجحت بالوصول إلى الناس، من دون فضل أجهزة السلطة الثقافية وقادتها.
تضاءلت أحلامنا قبل عامين، بالانزواء بعيداً عن خطوط التماس، نرثي خيبات الثقافة التي أنتجت صمتاً مخيفاً، وسط أدلجة الثقافة مديح "البوط العسكري" الذي يدوس على المبادرات الأهلية، لأنه على "حق"، حين يدافع عن وجود الطغاة فوق صدور المنابر الهاربة من نعوش ثقافة النظام السوري، و"منتفعاتها". هناك اغتيلت أية مبادرة لا تدبغها "الوطنية"، ولا تفوح منها رائحة "الشعب الذي يشرب دماً"، كما كان يردد الموالون للأسد في ساحة السبع بحرات في دمشق الحواجز.