09 أكتوبر 2024
"ما علينا ..."
زجرنا أبي، كي ندير مؤشر التلفزيون عن المشاهد الساخنة التي بدأت تظهر في منتصف أحداث فيلم "العذراء والشعر الأبيض"، حين تعتقد الابنة المتبنّاة أنها تحب والدها بالتبني، ذا الشخصية الوقورة الجذّابة، وقد فعلنا سريعاً، ولكنني كتبت على هامش الرواية الورقية التي أخفيها عن أبي عبارة "ذو العينين العميقتين الساحرتين"، وهو الفنان محمود عبد العزيز، وكان وقتها في الثلاثينات من عمره، حين قام ببطولة الفيلم، وكنت أنا مراهقة صغيرة، حين عرض الفيلم أول مرة على شاشة التلفزيون الإسرائيلي الناطق بالعربية.
في الصباح الباكر، وبين مقاعد الصف المدرسي، كنا نجلس ساهماتٍ، ونحملق في الفراغ، وفي خيال كل واحدة "مدحت". وبعد سنواتٍ كثيرة، اكتشفت أن محمود عبد العزيز قدم أعظم أدواره، لأن الفتيات في سن المراهقة يغرمن بالرجال الذين في سن آبائهن، وظل الشعر الأبيض يراود مخيلتي سنوات، على الرغم من أن فيلمه "العار" سبقه، إلا أن دوره فيه لم يكن جاذباً لفتاة في سني. ولكن، مع تطورنا النفسي، واطلاعنا أكثر على أمور الحياة، بدأنا نكتشف ممثلا آخر غير محمود عبد العزيز، فارس أحلام المراهقات، كما ظهر في أفلام السبعينيات، والذي يعتمد على وسامته في الدرجة الأولى، وإن ظلّ محتفظاً بها حتى آخر عمره، فقد كشفت زوجته بوسي شلبي أنه كان يخفي عينيه بنظارةٍ، طوال الوقت، لضعف بصره، وهي سعيدة بإخفائهما، لأن سحراً لا يقاوم ينفذ منهما باتجاه قلوب المعجبات من مختلف الأعمار.
هو بالفعل الساحر الذي استطاع أن يأخذنا نحو قضايا جديدة، بعيداً عن الرومانسية، فتفتحت عيوننا على قضايا الفساد والوضع الاقتصادي السيئ، وقضايا الأمة وهمها الواحد، من خلال الأستاذ الجامعي الذي يحصل على راتبٍ أقل من راتب ساعي مكتبه، والذي يلتقي بأربع فتيات فاتهن قطار الزواج، بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة للشباب، فيقرّر أن يتزوجهن معاً في فيلم "سيداتي سادتي". وفي ذلك الفيلم، نحت محمود عبد العزيز عبارته الأكثر شهرة "ما علينا"، ولخص بها أهمية البعد العملي في حياة الإنسان البسيط الباحث عن لقمة العيش، تاركاً التفاصيل والمبرّرات، زاهداً عن الخوض فيها، لأنه لم يعد هناك مجال للمنطق والفكر.
واللص المتنكّر في ثوب شيخ، وينزل على أهل قرية بسطاء، ويحل لهم مشكلة مولد الكهرباء المتعطل بالمصادفة، ويبدأون بالتبرّك به والتقرب إليه، ويمنحونه ما يستطيعون من قوت يومهم القليل.
ومع مشاهدات متكرّرة لفيلم "العار"، اكتشفت عمق المضمون من خلال قصة الإخوة الذين يتمتعون بمراكز مرموقة، ويقرّرون السير على خطا أبيهم، لكي يحافظوا على مستواهم الاجتماعي، فتخلوا عن مبادئهم من أجل المال. ولذلك، استحق أن يصاب أحدهم بلوثة عقلية، ويهتف بعبارة شهيرة تدل على تصديق اللص نفسه، وبأن ضياع المال الحرام الممتص من دم الغلابة يعتبر كارثةً، حيث ظل يهتف من دون وعي: شقا عمري ضاع.
وأهل الحي الفقير الذين يصدمون بوفاة عم مجاهد الفوال، وهدم مقهى الحي، فيحاولون التصدّي للدخلاء، وهم لصوص كبار لا حيلة لبسطاء حي "الكيت كات" في مواجهتهم، فقد برع الساحر في تجسيد شخصية الضرير الشيخ حسني، إلى درجة أنني بحثت عنه في الأزقة في الحي، عندما كنت أزور مصر، خصوصاً في الشتاء، وألمس بأسىً كيف يتحوّل فصل الخير لنقمةٍ على بيوت الفقراء المتصدعة، والآيلة للسقوط، وفوق ذلك لاحقهم اللصوص بربطات أعناقهم الزاهية، وبدلاتهم الأنيقة.
ليست هذه الأمثلة على سبيل الحصر في تاريخه الفني، وإن كان محمود عبد العزيز قد قبل بأدوارٍ لم تحقق له نجاحاً في سنواته الأخيرة، لكنه ظلّ بطلاً حتى النهاية، ولم يكن يوماً "سنّيداً" لواحدٍ من أبطال سينما اليوم الشباب، لكنه ظلّ محافظاً على مكانته، وتنوع أدواره، والأهم أنه لم يتقلب مثل غيره من فناني جيله مع تقلب السلطة في مصر، بل ظل يحلم ببطل مثل "رأفت الهجان"، المحب لوطنه، من دون أهداف أو مصالح.
في الصباح الباكر، وبين مقاعد الصف المدرسي، كنا نجلس ساهماتٍ، ونحملق في الفراغ، وفي خيال كل واحدة "مدحت". وبعد سنواتٍ كثيرة، اكتشفت أن محمود عبد العزيز قدم أعظم أدواره، لأن الفتيات في سن المراهقة يغرمن بالرجال الذين في سن آبائهن، وظل الشعر الأبيض يراود مخيلتي سنوات، على الرغم من أن فيلمه "العار" سبقه، إلا أن دوره فيه لم يكن جاذباً لفتاة في سني. ولكن، مع تطورنا النفسي، واطلاعنا أكثر على أمور الحياة، بدأنا نكتشف ممثلا آخر غير محمود عبد العزيز، فارس أحلام المراهقات، كما ظهر في أفلام السبعينيات، والذي يعتمد على وسامته في الدرجة الأولى، وإن ظلّ محتفظاً بها حتى آخر عمره، فقد كشفت زوجته بوسي شلبي أنه كان يخفي عينيه بنظارةٍ، طوال الوقت، لضعف بصره، وهي سعيدة بإخفائهما، لأن سحراً لا يقاوم ينفذ منهما باتجاه قلوب المعجبات من مختلف الأعمار.
هو بالفعل الساحر الذي استطاع أن يأخذنا نحو قضايا جديدة، بعيداً عن الرومانسية، فتفتحت عيوننا على قضايا الفساد والوضع الاقتصادي السيئ، وقضايا الأمة وهمها الواحد، من خلال الأستاذ الجامعي الذي يحصل على راتبٍ أقل من راتب ساعي مكتبه، والذي يلتقي بأربع فتيات فاتهن قطار الزواج، بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة للشباب، فيقرّر أن يتزوجهن معاً في فيلم "سيداتي سادتي". وفي ذلك الفيلم، نحت محمود عبد العزيز عبارته الأكثر شهرة "ما علينا"، ولخص بها أهمية البعد العملي في حياة الإنسان البسيط الباحث عن لقمة العيش، تاركاً التفاصيل والمبرّرات، زاهداً عن الخوض فيها، لأنه لم يعد هناك مجال للمنطق والفكر.
واللص المتنكّر في ثوب شيخ، وينزل على أهل قرية بسطاء، ويحل لهم مشكلة مولد الكهرباء المتعطل بالمصادفة، ويبدأون بالتبرّك به والتقرب إليه، ويمنحونه ما يستطيعون من قوت يومهم القليل.
ومع مشاهدات متكرّرة لفيلم "العار"، اكتشفت عمق المضمون من خلال قصة الإخوة الذين يتمتعون بمراكز مرموقة، ويقرّرون السير على خطا أبيهم، لكي يحافظوا على مستواهم الاجتماعي، فتخلوا عن مبادئهم من أجل المال. ولذلك، استحق أن يصاب أحدهم بلوثة عقلية، ويهتف بعبارة شهيرة تدل على تصديق اللص نفسه، وبأن ضياع المال الحرام الممتص من دم الغلابة يعتبر كارثةً، حيث ظل يهتف من دون وعي: شقا عمري ضاع.
وأهل الحي الفقير الذين يصدمون بوفاة عم مجاهد الفوال، وهدم مقهى الحي، فيحاولون التصدّي للدخلاء، وهم لصوص كبار لا حيلة لبسطاء حي "الكيت كات" في مواجهتهم، فقد برع الساحر في تجسيد شخصية الضرير الشيخ حسني، إلى درجة أنني بحثت عنه في الأزقة في الحي، عندما كنت أزور مصر، خصوصاً في الشتاء، وألمس بأسىً كيف يتحوّل فصل الخير لنقمةٍ على بيوت الفقراء المتصدعة، والآيلة للسقوط، وفوق ذلك لاحقهم اللصوص بربطات أعناقهم الزاهية، وبدلاتهم الأنيقة.
ليست هذه الأمثلة على سبيل الحصر في تاريخه الفني، وإن كان محمود عبد العزيز قد قبل بأدوارٍ لم تحقق له نجاحاً في سنواته الأخيرة، لكنه ظلّ بطلاً حتى النهاية، ولم يكن يوماً "سنّيداً" لواحدٍ من أبطال سينما اليوم الشباب، لكنه ظلّ محافظاً على مكانته، وتنوع أدواره، والأهم أنه لم يتقلب مثل غيره من فناني جيله مع تقلب السلطة في مصر، بل ظل يحلم ببطل مثل "رأفت الهجان"، المحب لوطنه، من دون أهداف أو مصالح.