08 نوفمبر 2024
المغرب... الإسلاميون رهان الشرعية الانتخابية
هناك شروط أساسية في تجارب الانتقال الديمقراطي، لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها، أهمها ضرورة وجود أجنحة معتدلة داخل القوى التي تتفاوض على آليات إنجاز هذا الانتقال. وكلما اتسمت هذه الأجنحة بقدرٍ عال من المرونة والفاعلية والقدرة على تدبير منعرجات المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر، أمكن تحقيق عبور آمن نحو نظام ديمقراطي، يحفظ مصالح الجميع ضمن مشروع وطني واضح ومتوافق عليه. وفي المقابل، كلما استمرت هيمنة الأجنحة المحافظة والمتشدّدة، أو ما يعرف عادة بـ ''الصقور'' داخل القوى المتفاوضة، كانت فرص نجاح الانتقال ضئيلة، بسبب تصلب هذه الأجنحة، وتغليبها مصالحها على المصلحة الوطنية.
مناسبة هذا الكلام، ما يشهده المغرب من فراغ حكومي، بعد مرور أكثر من شهرين على تكليف الملك محمد السادس عبد الإله بنكيران بتشكيل الحكومة الجديدة، عقب تصدّر الإسلاميين انتخابات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
تذهب معظم القراءات إلى أن هناك ''جهة'' تقف خلف هذا الوضع، في تدخلها السافر في قرارات الأحزاب المعنية بالمشاركة في هذه الحكومة، التجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية، والاتحاد الدستوري، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. تجلى ذلك أساساً في اعتراض "التجمع" على مشاركة حزب الاستقلال في حكومة بنكيران؛ وهو اعتراضٌ يبدو وكأنه يعكس تخوف بعضهم من إعادة اصطفاف سياسي تفضي إلى تحالفٍ بين الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية والإسلاميين، بما يعيد إلى الواجهة فكرة ''الكتلة التاريخية''. وإذا كان صحيحاً أن الأحزاب الوطنية فقدت الكثير من قواعدها وشعبيتها لأسبابٍ كثيرة، فإنه لا يمكن تجاهل إرثها الوطني والرمزي في تاريخ المغرب المعاصر. ما يعزّز هذا التخوف إصرار القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي على الاصطفاف إلى جانب الأحزاب الثلاثة الأخرى، والتي كان ينعتها سابقاً بالإدارية، دلالةً على سياق منشئها في أحضان السلطة. هناك، إذن، أزمة عميقة داخل الحقل الحزبي، لا تهدد فقط تطور التجربة السياسية المغربية، والتي يفترض أنها تنحاز للاختيار الديمقراطي، بل تهدد كذلك علاقة الدولة بالمجتمع، بسبب عجز معظم الأحزاب عن مواكبة المتغيرات المجتمعية والثقافية الحاصلة.
في الوسع القول إن هذه الجهة التي تقف خلف تعثر تأليف الحكومة تمثل الجناح المتشدد والمحافظ داخل السلطة، بإصرارها الضمني على عدم الاعتراف بنتائج اقتراع أكتوبر، ومحاولة الالتفاف عليها، بما يسمح لها بتجنب تراكم انتخابي، قد يتحوّل، مع الوقت، إلى عائد سياسي
يدفع صوب تحول ديمقراطي، يصعب التراجع عنه. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن حزب العدالة والتنمية لا يفتأ يعبر عن ولائه للملكية والنظام والمؤسسات القائمة، فإن الصورة ستتضح أكثر؛ هناك صراعٌ حول تأويل الوثيقة الدستورية، عبر محاولات حثيثة لتغليب التأويل التنفيذي والرئاسي لها، بدلا من التأويل البرلماني، وذلك بالالتفاف على الفصل 47 الذي ينص على أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدّر الانتخابات، ويعيّن أعضاءها باقتراح من رئيسها.
وفي ضوء تصدر الإسلاميين نتائج الانتخابات بـ 125 مقعداً، وتعيينِ الملك عبد الإله بنكيران، بصفته الحزبية، رئيساً للحكومة، فإن تعثر مشاورات الأخير مع الأحزاب المعنية يؤكد إصرار هذه الجهة على الحد من امتدادات الشرعية الانتخابية التي حازها الإسلاميون، وبالتالي إيصال رسالةٍ إلى الناخبين الذين منحوا أصواتهم لـ "العدالة والتنمية"، مفادها بأن فوز الأخير لا يمكن أن يغير، أو على الأقل يخلخل، موازين القوى التي تحكم الحقل السياسي في مفاصله الكبرى.
لم ترق حصيلة حكومة بنكيران المنتهية ولايتها إلى انتظارات فئات اجتماعية واسعة، بسبب ما اتخذته من قرارات غير شعبية، جَرَّتْ عليها نقمة الشارع والنقابات، خصوصاً في ما يتعلق بالجانب الاجتماعي. لكن، على الرغم من ذلك، منح الناخبون الحزب الإسلامي أصواتهم، وتقتضي أبسط مبادئ الديمقراطية احترامَ إرادتهم، وعدمَ التقليل من شأنها وتحقيرها، كما يفعل بعض من يحسبون على الصفين، الليبرالي والتقدمي.
يعيدنا هذا إلى مختلف مباحث الاجتماع السياسي المغربي التي أكّدت على التقليد، باعتباره المحرّك الأساسي للسيرورة السياسية في المغرب، فعلى الرغم مما يمكن أن تمثله لحظة الانتخابات من أهميةٍ حيوية، لا سيما بالنسبة للواجهة الخارجية للنظام، إلا أنها لا يمكن أن تتحوّل إلى مصدرٍ لشرعيةٍ مؤسساتيةٍ بديلةٍ عن السلطوية القائمة التي تتحكّم في إيقاع هذه السيرورة، أي أن فوز هذا الحزب أو ذاك لا يعني أن الطريق ستكون سالكةً أمامه لإنجاز التغيير المجتمعي المطلوب، والإسهام في إعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع، وفق أسس ديمقراطية.
ختاما، يدرك الإسلاميون أن حزبهم يتعرّض لإنهاك تنظيمي وسياسي، لدفعه إلى تقديم تنازلاتٍ لا تفرغ فقط الدستور من محتواه، باستبعاد التأويل الديمقراطي لمقتضياته، بل تؤدي إلى تراجع ممكنات التحول نحو الديمقراطية. لكن، في الوقت نفسه، تدرك ''الجهة الأخرى'' أن القفز على شرعية الانتخابات والالتفاف عليها سيكون مكلفاً جداً، الأمر الذي قد يدفعها، في الغالب، إلى الانصياع لصوت العقل واحترام إرادة الناخبين والتقيد بالاختيار الديمقراطي، الذي بات من ثوابت الأمة، حسب النص الدستوري.
مناسبة هذا الكلام، ما يشهده المغرب من فراغ حكومي، بعد مرور أكثر من شهرين على تكليف الملك محمد السادس عبد الإله بنكيران بتشكيل الحكومة الجديدة، عقب تصدّر الإسلاميين انتخابات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
تذهب معظم القراءات إلى أن هناك ''جهة'' تقف خلف هذا الوضع، في تدخلها السافر في قرارات الأحزاب المعنية بالمشاركة في هذه الحكومة، التجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية، والاتحاد الدستوري، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. تجلى ذلك أساساً في اعتراض "التجمع" على مشاركة حزب الاستقلال في حكومة بنكيران؛ وهو اعتراضٌ يبدو وكأنه يعكس تخوف بعضهم من إعادة اصطفاف سياسي تفضي إلى تحالفٍ بين الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية والإسلاميين، بما يعيد إلى الواجهة فكرة ''الكتلة التاريخية''. وإذا كان صحيحاً أن الأحزاب الوطنية فقدت الكثير من قواعدها وشعبيتها لأسبابٍ كثيرة، فإنه لا يمكن تجاهل إرثها الوطني والرمزي في تاريخ المغرب المعاصر. ما يعزّز هذا التخوف إصرار القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي على الاصطفاف إلى جانب الأحزاب الثلاثة الأخرى، والتي كان ينعتها سابقاً بالإدارية، دلالةً على سياق منشئها في أحضان السلطة. هناك، إذن، أزمة عميقة داخل الحقل الحزبي، لا تهدد فقط تطور التجربة السياسية المغربية، والتي يفترض أنها تنحاز للاختيار الديمقراطي، بل تهدد كذلك علاقة الدولة بالمجتمع، بسبب عجز معظم الأحزاب عن مواكبة المتغيرات المجتمعية والثقافية الحاصلة.
في الوسع القول إن هذه الجهة التي تقف خلف تعثر تأليف الحكومة تمثل الجناح المتشدد والمحافظ داخل السلطة، بإصرارها الضمني على عدم الاعتراف بنتائج اقتراع أكتوبر، ومحاولة الالتفاف عليها، بما يسمح لها بتجنب تراكم انتخابي، قد يتحوّل، مع الوقت، إلى عائد سياسي
وفي ضوء تصدر الإسلاميين نتائج الانتخابات بـ 125 مقعداً، وتعيينِ الملك عبد الإله بنكيران، بصفته الحزبية، رئيساً للحكومة، فإن تعثر مشاورات الأخير مع الأحزاب المعنية يؤكد إصرار هذه الجهة على الحد من امتدادات الشرعية الانتخابية التي حازها الإسلاميون، وبالتالي إيصال رسالةٍ إلى الناخبين الذين منحوا أصواتهم لـ "العدالة والتنمية"، مفادها بأن فوز الأخير لا يمكن أن يغير، أو على الأقل يخلخل، موازين القوى التي تحكم الحقل السياسي في مفاصله الكبرى.
لم ترق حصيلة حكومة بنكيران المنتهية ولايتها إلى انتظارات فئات اجتماعية واسعة، بسبب ما اتخذته من قرارات غير شعبية، جَرَّتْ عليها نقمة الشارع والنقابات، خصوصاً في ما يتعلق بالجانب الاجتماعي. لكن، على الرغم من ذلك، منح الناخبون الحزب الإسلامي أصواتهم، وتقتضي أبسط مبادئ الديمقراطية احترامَ إرادتهم، وعدمَ التقليل من شأنها وتحقيرها، كما يفعل بعض من يحسبون على الصفين، الليبرالي والتقدمي.
يعيدنا هذا إلى مختلف مباحث الاجتماع السياسي المغربي التي أكّدت على التقليد، باعتباره المحرّك الأساسي للسيرورة السياسية في المغرب، فعلى الرغم مما يمكن أن تمثله لحظة الانتخابات من أهميةٍ حيوية، لا سيما بالنسبة للواجهة الخارجية للنظام، إلا أنها لا يمكن أن تتحوّل إلى مصدرٍ لشرعيةٍ مؤسساتيةٍ بديلةٍ عن السلطوية القائمة التي تتحكّم في إيقاع هذه السيرورة، أي أن فوز هذا الحزب أو ذاك لا يعني أن الطريق ستكون سالكةً أمامه لإنجاز التغيير المجتمعي المطلوب، والإسهام في إعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع، وفق أسس ديمقراطية.
ختاما، يدرك الإسلاميون أن حزبهم يتعرّض لإنهاك تنظيمي وسياسي، لدفعه إلى تقديم تنازلاتٍ لا تفرغ فقط الدستور من محتواه، باستبعاد التأويل الديمقراطي لمقتضياته، بل تؤدي إلى تراجع ممكنات التحول نحو الديمقراطية. لكن، في الوقت نفسه، تدرك ''الجهة الأخرى'' أن القفز على شرعية الانتخابات والالتفاف عليها سيكون مكلفاً جداً، الأمر الذي قد يدفعها، في الغالب، إلى الانصياع لصوت العقل واحترام إرادة الناخبين والتقيد بالاختيار الديمقراطي، الذي بات من ثوابت الأمة، حسب النص الدستوري.