19 أكتوبر 2019
الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والطلاق العسير
لا جدال في أن مخاض الانسحاب من الاتحاد الأوروبي يشبه مخاض الانضمام (بدفتر شروطه) إليه، وإنْ كان سقف التسامح في التعامل مع العضو القادم أعلى بكثيرٍ من سقف التسامح في التعاطي مع العضو المغادر. ولم يكن أحدٌ ينتظر طلاقاً هادئاً بين الاتحاد وبريطانيا، بالنظر إلى تراكمات العضوية البريطانية في الاتحاد الأوروبي، وتشابك العلاقات بين الدول الأعضاء المنخرطة في البنيان الأوروبي. إذ يتعيّن الخوض، وبالتفاصيل، في كمٍّ هائل من الاتفاقيات والقوانين الأوروبية لفسخ العقد بين الطرفين نهائياً. والعملية تفاوضية بامتياز، يسعى فيها كل طرفٍ إلى تعظيم مكاسبه وتحجيم تنازلاته. لذا، يسعى كلّ طرفٍ، لا سيما بريطانيا، إلى توظيف كل الأوراق. وبالطبع، يوجد ساسة بريطانيا في وضعٍ لا يُحسدون عليه، فهم أوهموا شعبهم بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيعود بالفائدة عليهم. لذا، فهم تحت ضغط كبير: فهم بين مطرقة الاتحاد الأوروبي الذي لا يرغب في تقديم أي تنازلاتٍ في صفقة الطلاق الهادئ، وسندان الرأي العام البريطاني (المساند في أغلبيته للانسحاب من الاتحاد) الذي يرغب في تعظيم "منحة" الطلاق.
ومن بين الأوراق التي توظفها الحكومة البريطانية لتعظيم مكاسبها في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، مستقبل الجالية الأوروبية في بريطانيا (3.3 ملايين مواطن أوروبي من دول الاتحاد الـ 27) والجالية البريطانية (1.2 مليون بريطاني يعيشون في دول الاتحاد). وقد خصّصت صحيفة لوموند الفرنسية مقالاً أول من أمس (1 ديسمبر) لتصعيد الاتحاد الأوروبي اللهجة حيال الحكومة البريطانية، بسبب سعيها إلى دق إسفين بين دوله، لا سيما بشأن موضوع مصير الجاليتين. حيث أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، رغبتها التفاوض مع دول الاتحاد فرادى، قبل البدء في مفاوضات الانسحاب مع الاتحاد الأوروبي. وهدفها محاولة الاستفراد بدول الاتحاد فرادى، للحصول على القدر الأكبر من التنازلات منها، وتجنب التفاوض معها جماعياً (27/1) حول هذا الملف وتبعات ذلك (قد يساهم هذا الملف الحساس بالنسبة لبعض الدول الأوروبية في تدعيم صفوف الاتحاد في مواجهة بريطانيا). وتشير "لوموند" إلى أن بريطانيا تسعى إلى خطب ود بولندا، قبل الخوض في مفاوضات
الانسحاب، كون 800 ألف بولندي، من أصل 3.3 ملايين مواطن أوروبي، يعيشون في بريطانيا. وكرد فعل على هذه "المناورة" البريطانية، وتحديداً على رسالةٍ وقعها ثمانون نائباً من البرلمان البريطاني، ينتقدون فيها رفض الفرنسي ميشال بارنيي، كبير المفاوضين الأوروبيين المكلف بملف خروج بريطانيا من الاتحاد، في المفوضية الأوروبية، فتح محادثات بشأن مصير الجاليتين، قبل تفعيل بريطانيا المادة 50 من معاهدة لشبونة (أي تقديم طلب رسمي، يستوفي الشروط القانونية للخروج من الاتحاد)، صرّح رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، إن مصدر القلق واللايقين هو قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأن السبيل الوحيد لتبديد المخاوف وشكوك المواطنين المعنيين هو الشروع في أقرب وقت في المفاوضات. وتضيف الصحيفة أن رئيس المجلس الأوروبي لا يريد أن يصبح ملف الجاليتين "عملةً للمقايضة"، متبنياً بذلك موقف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي كانت قد اعتبرت، في وقت سابق، أنه من مصلحة دول الاتحاد أن تعمل سوياً في تعاطيها مع هذا الملف. ولقي تصريح رئيس المجلس الأوروبي ترحيباً وارتياحاً في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، أي يتفق الجميع على أنه لا يمكن لبريطانيا البدء في المفاوضات، قبل تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة.
ماذا يمكن استخلاصه من هذه المواقف المتناقضة؟ واضح أن بريطانيا تسعى إلى توظيف ملف الجالية الأوروبية المقيمة على أراضيها، باستهداف بلدانها الأصلية، مثل بولندا. وحساباتها دقيقة: دق إسفين بين دول الاتحاد الأوروبي بالاستفراد ببعضها، وبالتالي إجهاض أي تحرّك جماعي خلال مفاوضات الانسحاب المقبلة؛ تقديم "تنازلات" لبعض هذه الدول الحساسة حيال ملف الجالية، مثل بولندا، لاستمالتها وتوظيفها لضرب الاتحاد من داخل، في أثناء المفاوضات؛ تشتيت المفاوضات إلى قطاعات وفروع متخصصة، لا تعني ولا تهم بالضرورة كل دول الاتحاد الأوروبي الـ 27، حتى يتسّنى لها التفاوض الثنائي؛ محاولة تهميش بعض دول الاتحاد ذات الثقل الكبير التي تعتبر أن بريطانيا التي حصلت على ما كانت تريده من استثناءات ومعاملة خاصة، خلال مختلف مراحل البناء الأوروبي، تعرِّض الاتحاد الأوروبي للخطر، وبالتالي، عليها أن تتحمل مسؤوليتها، وأن تعلم أن خروجها منه سيكلفها الكثير. من منظور واقعي بحت، تخدم هذه الأهداف المصلحة البريطانية، وهي تعظيم مكاسب الانسحاب، والتقليل من تكلفته. لكن بريطانيا ستجد صعوبةً في ذلك، لأن شروط الطلاق، المطلوب من طرف واحد، ستكون قاسيةً، ولا شيء يبرّر تعامل الاتحاد الأوروبي معها برحمة، فللغة المصالح الكلمة الفصل.
المثير للانتباه استعجال بريطانيا الخوض في مفاوضاتٍ جزئية ثنائية، وتأجيلها استحقاق
مفاوضات الانسحاب الرسمي من الاتحاد. سعيها إلى تعظيم مكاسبها لا يفسّر كل شيء. ألا يتعلق الأمر أيضاً بمناورةٍ لربح الوقت، وتأجيل ما هو آت (تفعيل معاهدة لشبونة) باختبار سقف تحمل دول الاتحاد، ومدى استعدادها للتنازل، ومدى وحدتها، وحتى استعجالها في طي ملف الانسحاب البريطاني نهائياً؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك؟ قد يشير هذا التريث البريطاني المقصود والمناورة الواضحة إلى غياب إجماعٍ في الحكومة البريطانية بشأن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وإلى مراهنةٍ على حدث طارئ، يجعل استفتاء الخروج في حكم الملغى، يعفي الحكومة من مسؤولية التنصل منه، ومن مشقة المفاوضات، وخصوصاً الانعكاسات الاقتصادية على الشعب البريطاني، فصحيح أن الأخير هو من صوّت للانسحاب، لكن سيحمل الحكومة تبعات الأمور، بعد تأزم الوضع غداة الانسحاب الفعلي من الاتحاد الأوروبي.
ومن بين الأوراق التي توظفها الحكومة البريطانية لتعظيم مكاسبها في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، مستقبل الجالية الأوروبية في بريطانيا (3.3 ملايين مواطن أوروبي من دول الاتحاد الـ 27) والجالية البريطانية (1.2 مليون بريطاني يعيشون في دول الاتحاد). وقد خصّصت صحيفة لوموند الفرنسية مقالاً أول من أمس (1 ديسمبر) لتصعيد الاتحاد الأوروبي اللهجة حيال الحكومة البريطانية، بسبب سعيها إلى دق إسفين بين دوله، لا سيما بشأن موضوع مصير الجاليتين. حيث أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، رغبتها التفاوض مع دول الاتحاد فرادى، قبل البدء في مفاوضات الانسحاب مع الاتحاد الأوروبي. وهدفها محاولة الاستفراد بدول الاتحاد فرادى، للحصول على القدر الأكبر من التنازلات منها، وتجنب التفاوض معها جماعياً (27/1) حول هذا الملف وتبعات ذلك (قد يساهم هذا الملف الحساس بالنسبة لبعض الدول الأوروبية في تدعيم صفوف الاتحاد في مواجهة بريطانيا). وتشير "لوموند" إلى أن بريطانيا تسعى إلى خطب ود بولندا، قبل الخوض في مفاوضات
ماذا يمكن استخلاصه من هذه المواقف المتناقضة؟ واضح أن بريطانيا تسعى إلى توظيف ملف الجالية الأوروبية المقيمة على أراضيها، باستهداف بلدانها الأصلية، مثل بولندا. وحساباتها دقيقة: دق إسفين بين دول الاتحاد الأوروبي بالاستفراد ببعضها، وبالتالي إجهاض أي تحرّك جماعي خلال مفاوضات الانسحاب المقبلة؛ تقديم "تنازلات" لبعض هذه الدول الحساسة حيال ملف الجالية، مثل بولندا، لاستمالتها وتوظيفها لضرب الاتحاد من داخل، في أثناء المفاوضات؛ تشتيت المفاوضات إلى قطاعات وفروع متخصصة، لا تعني ولا تهم بالضرورة كل دول الاتحاد الأوروبي الـ 27، حتى يتسّنى لها التفاوض الثنائي؛ محاولة تهميش بعض دول الاتحاد ذات الثقل الكبير التي تعتبر أن بريطانيا التي حصلت على ما كانت تريده من استثناءات ومعاملة خاصة، خلال مختلف مراحل البناء الأوروبي، تعرِّض الاتحاد الأوروبي للخطر، وبالتالي، عليها أن تتحمل مسؤوليتها، وأن تعلم أن خروجها منه سيكلفها الكثير. من منظور واقعي بحت، تخدم هذه الأهداف المصلحة البريطانية، وهي تعظيم مكاسب الانسحاب، والتقليل من تكلفته. لكن بريطانيا ستجد صعوبةً في ذلك، لأن شروط الطلاق، المطلوب من طرف واحد، ستكون قاسيةً، ولا شيء يبرّر تعامل الاتحاد الأوروبي معها برحمة، فللغة المصالح الكلمة الفصل.
المثير للانتباه استعجال بريطانيا الخوض في مفاوضاتٍ جزئية ثنائية، وتأجيلها استحقاق