04 نوفمبر 2024
تجربة الطفل المتجمّد
تجربةٌ اجتماعية مروّعة، موضوعة على "يوتيوب"، تحت عنوان "نيويورك سيتي 5 درجات"، قام بها، أخيراً، عدة شبان في شوارع نيويورك، بغية رصد مقدار مشاعر التضامن الإنساني، على فرض وجوده في زماننا القاسي، المتوحش البارد، الخالي من أسباب الأمل. من أجل ذلك، دفعوا شقيقهم الصغير الممثل البارع الذي لا يتجاوز عمره عشر سنوات في برد نيويورك القارس، حيث يتدفق العابرون تباعاً، في أمواج بشريةٍ لاهية عما حولها، متلفعين بألبستهم الثقيلة، من دون أن يغفلوا ارتداء القبعات والشالات الصوفية والأحذية طويلة الأعناق، وقد أخذوا كل احتياطاتهم الللازمة، لكي يحموا أجسادهم من لسعة البرد اللئيمة، حيث درجة الحرارة لم تتجاوز الخمسة بالمئة.
كان الصبي يمثل دور المتشرّد، يستجدي العطف والشفقة والانتباه، يرتدي ثياباً رثّة بقميصٍ قطني ممزق لا يكاد يستر جسده الصغير، المرتعش مثل عصفور مبتل، لائذ في يوم عاصف بغصنٍ هشٍّ على وشك الانكسار، يحاول استجلاب بعض الدفء المستحيل، يغطّي جسده الصغير داخل كيس قمامة كبير في مشهد يمزق القلب، فيما الكاميرا تدور ساعتين، وترصد بعين الفجيعة حالة التوحش والتحجّر واللامبالاة المفزعة في قلب حاضرة الدنيا، وسط ناطحات السحاب، شاهدة على زمن التجمد والجليد الذي اعترى الأرواح المتعولمة، السائرة بآلية الروبوتوتات إلى مهامها اليومية الرتيبة، متدثرةً بمعاطفها.
وجوهٌ صارمه خالية من التعبير عن أدنى ملمح إنساني يوحي بالحياة، ساعتان مضت، والطفل المرتعش برداً، المتروك، بمقتضى النص الدرامي، في العراء يعبر عنه الناس من دون التفات. لا أحد من هؤلاء فكّر، ولو لحظة بمد يد المساعدة أو حتى مجرد السؤال، أو الاتصال بجهةٍ رسمية للتبليغ عن الحالة قبل أن يتقدّم نحوه متشرد أسود يعيش في الشوارع، ويتدبر أمره يوماً بيوم، ويخلع سترته الوحيدة، ويلقيها فوق كتفي الصغير، يهدئ من روعه، ويسأله عما جاء به هناك، ويقول: أنت أخي الصغير، من المحزن أن يفقد ولد في عمرك أهله. أنا فقير مثلك، وأعرف ماذا تفكر به الآن. هل أنت جائع؟ يتقاسم معه بضع لقمات والعابرون الآليون ما زالوا ماضين في طريقهم نحو الجحود والتنصل.
يتحدّث بعضهم في الهاتف المحمول، وآخرون ينفثون السجائر غير عابئين سوى بالوصول إلى مقر العمل في الوقت المناسب. رجال أنيقون، سيدات جميلاتٌ، لا يجمعهم سوى إيقاع الخطو السريع، وكم الإهمال والتجاهل لمشهد حيٍّ حزين كفيل بتفتيت قلب الصخر، حين تقدم الشبان من المتشرّد، وشرحوا له حيثيات التجربة، وقدموا له بعض المساعدة النقدية التي يستحقها، بعدما أخبروه أنه الشخص الوحيد الذي بادر إلى المساعدة، احتضنهم باكياً قسوة البشر، هذا ما حدث ذات اختبار، متوقعة نتائجه في بلاد الكفر والزندقة، حيث الناسُ هناك قساةٌ غلاظ القلوب، لا يعرفون الله.
أما ما جرى في مدينة الزرقاء، وهي أكبر مدن الأردن كثافةً سكنيةً، حيث التقوى والورع على أشده! وكذلك التكافل والتضامن ومفاهيم الرأفة والرحمة بالعباد، فقد قضى متشرّدٌ يعيش على قارعة الطريق لسببٍ سخيفٍ جداً. مات من البرد، هكذا وبكل بساطةٍ، وكما أفاد تقرير المستشفى الحكومي، فإن المتوفى كان يعاني من الالتهاب الرئوي الحاد، بسبب نقص العلاج، وتعرّضه، في الأيام الماضية، إلى موجة البرد الشديد التي اكتسحت المملكة! وكيف لا يموت من يعيش في مثل هذا الظرف البائس بلا مأوى، شريداً يحتمي من المطر بأكياس بلاستيكية. مقر إقامته الدائمة كان في مجمّع حافلات مهجور، يفترش الأرض، ويغطّي جسده المنهوب ببضع صناديق من الكرتون، وليس ثمّة كاميرا تدور خدمةً لدراسة اجتماعية، كما حدث في نيويورك، وليس ثمّة أمل أن يكون هذا المتشرّد ممثلاً بارعاً، بل مجرد مجنيٍّ عليه قتيل الظروف البائسة والإهمال والفساد، قتيلنا، نحن المجموع الذي يدّعي، زوراً وبهتاناً، إنسانية وأخلاقاً ورحمةً ورأفةً ليس يملكها.
كان الصبي يمثل دور المتشرّد، يستجدي العطف والشفقة والانتباه، يرتدي ثياباً رثّة بقميصٍ قطني ممزق لا يكاد يستر جسده الصغير، المرتعش مثل عصفور مبتل، لائذ في يوم عاصف بغصنٍ هشٍّ على وشك الانكسار، يحاول استجلاب بعض الدفء المستحيل، يغطّي جسده الصغير داخل كيس قمامة كبير في مشهد يمزق القلب، فيما الكاميرا تدور ساعتين، وترصد بعين الفجيعة حالة التوحش والتحجّر واللامبالاة المفزعة في قلب حاضرة الدنيا، وسط ناطحات السحاب، شاهدة على زمن التجمد والجليد الذي اعترى الأرواح المتعولمة، السائرة بآلية الروبوتوتات إلى مهامها اليومية الرتيبة، متدثرةً بمعاطفها.
وجوهٌ صارمه خالية من التعبير عن أدنى ملمح إنساني يوحي بالحياة، ساعتان مضت، والطفل المرتعش برداً، المتروك، بمقتضى النص الدرامي، في العراء يعبر عنه الناس من دون التفات. لا أحد من هؤلاء فكّر، ولو لحظة بمد يد المساعدة أو حتى مجرد السؤال، أو الاتصال بجهةٍ رسمية للتبليغ عن الحالة قبل أن يتقدّم نحوه متشرد أسود يعيش في الشوارع، ويتدبر أمره يوماً بيوم، ويخلع سترته الوحيدة، ويلقيها فوق كتفي الصغير، يهدئ من روعه، ويسأله عما جاء به هناك، ويقول: أنت أخي الصغير، من المحزن أن يفقد ولد في عمرك أهله. أنا فقير مثلك، وأعرف ماذا تفكر به الآن. هل أنت جائع؟ يتقاسم معه بضع لقمات والعابرون الآليون ما زالوا ماضين في طريقهم نحو الجحود والتنصل.
يتحدّث بعضهم في الهاتف المحمول، وآخرون ينفثون السجائر غير عابئين سوى بالوصول إلى مقر العمل في الوقت المناسب. رجال أنيقون، سيدات جميلاتٌ، لا يجمعهم سوى إيقاع الخطو السريع، وكم الإهمال والتجاهل لمشهد حيٍّ حزين كفيل بتفتيت قلب الصخر، حين تقدم الشبان من المتشرّد، وشرحوا له حيثيات التجربة، وقدموا له بعض المساعدة النقدية التي يستحقها، بعدما أخبروه أنه الشخص الوحيد الذي بادر إلى المساعدة، احتضنهم باكياً قسوة البشر، هذا ما حدث ذات اختبار، متوقعة نتائجه في بلاد الكفر والزندقة، حيث الناسُ هناك قساةٌ غلاظ القلوب، لا يعرفون الله.
أما ما جرى في مدينة الزرقاء، وهي أكبر مدن الأردن كثافةً سكنيةً، حيث التقوى والورع على أشده! وكذلك التكافل والتضامن ومفاهيم الرأفة والرحمة بالعباد، فقد قضى متشرّدٌ يعيش على قارعة الطريق لسببٍ سخيفٍ جداً. مات من البرد، هكذا وبكل بساطةٍ، وكما أفاد تقرير المستشفى الحكومي، فإن المتوفى كان يعاني من الالتهاب الرئوي الحاد، بسبب نقص العلاج، وتعرّضه، في الأيام الماضية، إلى موجة البرد الشديد التي اكتسحت المملكة! وكيف لا يموت من يعيش في مثل هذا الظرف البائس بلا مأوى، شريداً يحتمي من المطر بأكياس بلاستيكية. مقر إقامته الدائمة كان في مجمّع حافلات مهجور، يفترش الأرض، ويغطّي جسده المنهوب ببضع صناديق من الكرتون، وليس ثمّة كاميرا تدور خدمةً لدراسة اجتماعية، كما حدث في نيويورك، وليس ثمّة أمل أن يكون هذا المتشرّد ممثلاً بارعاً، بل مجرد مجنيٍّ عليه قتيل الظروف البائسة والإهمال والفساد، قتيلنا، نحن المجموع الذي يدّعي، زوراً وبهتاناً، إنسانية وأخلاقاً ورحمةً ورأفةً ليس يملكها.