03 يوليو 2019
حفنة دمع لتراب قبرها
لم يتماسك تراب قبرها بعد. وكذلك أنا. أمد إليه يدي المرتجفة. أُمسّده برفق، وخوف، لكأنه قشرة دم، بالكاد تخثرت لتغطي جرحاً غائراً في بعض جسدي. أُغمض عينيَّ، وأحبس أنفاسي، قبل أن أقبض حفنة منه، وأرفعها قليلاً، فأراني أتساقط مع ذرات الرمل وحبيبات الحصى من بين أصابعي، وأتوه في السؤال؛ كم غيمةً ينبغي أن تتفتت وتهوي من عليائها نحو الأرض، حتى يصير هذا الثرى طيناً، ثم كم مرة، ينبغي أن تشرق الشمس، وتتوسط كبد السماء، كي يجف طين وجهي، وأعود بشراً سوياً.
كانت ساعة موتها، وكذا أيام العزاء الثلاثة، دافئةً مشمسة، على خلاف المعتاد في مثل هذا الوقت من السنة. ومع حلول اليوم الرابع، انهمر المطر مدراراً، وعصفت الريح، فعادت إلى الذاكرة تساؤلاتها المشفقة على ذوي من يموت في الليالي العاصفة الماطرة؛ كيف يتسنى لهم دفنه، وماذا يفعلون ليمنعوا المياه من أن تغمر قاع قبره، والطين من أن تلوث بياض كفنه؟
في ليلتها الأخيرة، اضطررت إلى الدخول في سباقٍ غير عادل مع الموت نحوها. كنت فلذة منفيةً، تلهث على طريق العودة إلى موطنها الأول في الكبد الذي قال الأطباء إنه تشمّع، وكان هو قبضة جبارة تطارد روحها التي لا أحد مثلي يعرف قدرتها على المقاومة. كنت على مسافة آلاف الكيلومترات، وكان يُقعي عند حافة سريرها. كنت أجري كالمجنون في صالات المطارات، أقفز من طائرةٍ إلى طائرة، وكان يتلهى أمام عينيها المغمضتين، مستمعاً بمكر لسؤالها المتكرر عن موعد وصولي.
قلت لها، حين حدثتهاً هاتفياً آخر مرة، إني قادم بعد ساعات قليلة. كنت أحاول حثها على التمسك بالحياة، ريثما أصل، فلم تعدني بالانتظار. لعلها كانت ترى هادم اللذات ومُفرّق الجماعات، يتعجل خطفها، وتقرأ في عينيه وعيداً برفض إمهالها، فاكتفت بالقول؛ "أهلاً وسهلاً يمّة.. الله يرضى عليك يا حبيبي".
وإذ وصلت متأخراً ساعتين عن مفترق الفجيعة، وجدتها على الطاولة في غرفة الموتى شابة نائمة، فاتها أن تستيقظ، وتوقظ طفلها البكر، ليتشاركا وجبة السحور في ليلةٍ رمضانيةٍ باردة، لا امرأة سبعينية تشمع كبدها، وماتت في انتظار التئام فلذاته المشتتة على أرجاء الأرض. لا بأس، إذن، من أن أوقظها أنا هذه المرة؛ قومي يا أمي. لقد طلع النهار، ولم نتسحر. همست، عند رأسها المتلحف بكوفية فلسطينية، فلم ترد. رفعت صوتي قليلا، وقبلت يديها، فظلت صامتة. صرختُ، فما سمعتُ غير صدى بكاء الولد الذي كنته منذ نحو نصف قرن.
أما بعد دفنها. بعد أيام العزاء الثلاثة. بعد أن عصفت الريح بالقلب، بعد أن تسرّبت مياه الأمطار إلى قاع الدماغ، بعد أن اتشح البيت والحارة كلها بالسواد، فسأرى رفيق عمرها الشاب الثمانيني، وقد صار شاعراً عجوزاً بكّاءً، ينسى مناكفاتهما المتكرّرة، ويرثيها بأبيات من حداء موجع، ومبلل بالدموع، وتختلط فيه ذكرياته عن ابنة عمه التي كانت طفلةً في الرابعة لدى تهجيرهما من فلسطين عام 1948 بمخاوفه، في شيخوختهما، من أن تموت قبله، وتتركه للوحدة التي بات فيها.
اكتب عن أمك. قال لي، وقد مر شهر عجزت فيه الكتابة، بعد رحيلها. وعدته أن أفعل، وتحاشيت البوح له بدوافع العجز الذي أصابني؛ كيف سيطاوعني قلمي على أن أكتب ما لن تُتاح لها قراءته. غير أنه استدرك، كمن يسمع دبيب هواجسي؛ اكتب أنها اختارت العيش معي في بيتٍ بنيناه معاً فوق سفحٍ يطلّ على فلسطين، وقل إنها مدفونة في مثواها الأخير إلى جوار الصحابي معاذ بن جبل، وجهها إلى القبلة، ورأسها، بل جسدها كله، يتعامد مع حدود فلسطين.
كتبت. ولكن ما الفائدة، طالما أن أحداً لن يقول لأختي؛ اطبعي لي مقال ماجد، ولا تنسي أن تطبعي معه تعليقات القراء؟
كانت ساعة موتها، وكذا أيام العزاء الثلاثة، دافئةً مشمسة، على خلاف المعتاد في مثل هذا الوقت من السنة. ومع حلول اليوم الرابع، انهمر المطر مدراراً، وعصفت الريح، فعادت إلى الذاكرة تساؤلاتها المشفقة على ذوي من يموت في الليالي العاصفة الماطرة؛ كيف يتسنى لهم دفنه، وماذا يفعلون ليمنعوا المياه من أن تغمر قاع قبره، والطين من أن تلوث بياض كفنه؟
في ليلتها الأخيرة، اضطررت إلى الدخول في سباقٍ غير عادل مع الموت نحوها. كنت فلذة منفيةً، تلهث على طريق العودة إلى موطنها الأول في الكبد الذي قال الأطباء إنه تشمّع، وكان هو قبضة جبارة تطارد روحها التي لا أحد مثلي يعرف قدرتها على المقاومة. كنت على مسافة آلاف الكيلومترات، وكان يُقعي عند حافة سريرها. كنت أجري كالمجنون في صالات المطارات، أقفز من طائرةٍ إلى طائرة، وكان يتلهى أمام عينيها المغمضتين، مستمعاً بمكر لسؤالها المتكرر عن موعد وصولي.
قلت لها، حين حدثتهاً هاتفياً آخر مرة، إني قادم بعد ساعات قليلة. كنت أحاول حثها على التمسك بالحياة، ريثما أصل، فلم تعدني بالانتظار. لعلها كانت ترى هادم اللذات ومُفرّق الجماعات، يتعجل خطفها، وتقرأ في عينيه وعيداً برفض إمهالها، فاكتفت بالقول؛ "أهلاً وسهلاً يمّة.. الله يرضى عليك يا حبيبي".
وإذ وصلت متأخراً ساعتين عن مفترق الفجيعة، وجدتها على الطاولة في غرفة الموتى شابة نائمة، فاتها أن تستيقظ، وتوقظ طفلها البكر، ليتشاركا وجبة السحور في ليلةٍ رمضانيةٍ باردة، لا امرأة سبعينية تشمع كبدها، وماتت في انتظار التئام فلذاته المشتتة على أرجاء الأرض. لا بأس، إذن، من أن أوقظها أنا هذه المرة؛ قومي يا أمي. لقد طلع النهار، ولم نتسحر. همست، عند رأسها المتلحف بكوفية فلسطينية، فلم ترد. رفعت صوتي قليلا، وقبلت يديها، فظلت صامتة. صرختُ، فما سمعتُ غير صدى بكاء الولد الذي كنته منذ نحو نصف قرن.
أما بعد دفنها. بعد أيام العزاء الثلاثة. بعد أن عصفت الريح بالقلب، بعد أن تسرّبت مياه الأمطار إلى قاع الدماغ، بعد أن اتشح البيت والحارة كلها بالسواد، فسأرى رفيق عمرها الشاب الثمانيني، وقد صار شاعراً عجوزاً بكّاءً، ينسى مناكفاتهما المتكرّرة، ويرثيها بأبيات من حداء موجع، ومبلل بالدموع، وتختلط فيه ذكرياته عن ابنة عمه التي كانت طفلةً في الرابعة لدى تهجيرهما من فلسطين عام 1948 بمخاوفه، في شيخوختهما، من أن تموت قبله، وتتركه للوحدة التي بات فيها.
اكتب عن أمك. قال لي، وقد مر شهر عجزت فيه الكتابة، بعد رحيلها. وعدته أن أفعل، وتحاشيت البوح له بدوافع العجز الذي أصابني؛ كيف سيطاوعني قلمي على أن أكتب ما لن تُتاح لها قراءته. غير أنه استدرك، كمن يسمع دبيب هواجسي؛ اكتب أنها اختارت العيش معي في بيتٍ بنيناه معاً فوق سفحٍ يطلّ على فلسطين، وقل إنها مدفونة في مثواها الأخير إلى جوار الصحابي معاذ بن جبل، وجهها إلى القبلة، ورأسها، بل جسدها كله، يتعامد مع حدود فلسطين.
كتبت. ولكن ما الفائدة، طالما أن أحداً لن يقول لأختي؛ اطبعي لي مقال ماجد، ولا تنسي أن تطبعي معه تعليقات القراء؟