19 أكتوبر 2019
أوروبا ومحاولات تسيير الهجرة عن بعد
يعتمد الاتحاد الأوروبي، في تعامله مع معضلة الهجرة، على جملةٍ من الآليات، منها التفاوض مع دول جنوب المتوسط، حتى تقبل مهاجريها المرحّلين من أوروبا. وفي مرحلةٍ ثانيةٍ إقناعها، والضغط عليها، لتقبل المهاجرين المرحلين من غير رعاياها، على أساس أنهم وصلوا إلى التراب الأوروبي، انطلاقاً من أراضيها. لكن مثل هذه الآليات لم تؤت أكلها، بالنظر إلى تردّد شركاء الاتحاد الأوروبي المتوسطيين، وإلى العدد القليل من المهاجرين المعنيين بمثل هذه الآليات. ويواصل الاتحاد الأوروبي العمل بها، متبنياً، في الوقت نفسه، استراتيجية متكاملة في هذا المجال، حيث يسعى، منذ سنوات، إلى تسيير مشكلة الهجرة عن بعد، أي إيجاد صيغ لمعالجة ظاهرة الهجرة، بعيداً عن الحدود الأوروبية. والهدف هو استباق وصول المهاجرين إلى الأراضي الأوروبية بإقناع (وبالضغط على) دول المصدر، والعبور للتكفل بهم. وهذا ما يسمى المناولة في مجال الهجرة، حيث تحل دول متوسطية محل الاتحاد الأوروبي، في التكفل بالمهاجرين. والصيغة المتوصل إليها هي إقناع دول جنوب المتوسط بفتح مراكز إيواء للمهاجرين، لمنعهم من الوصول إلى الأراضي الأوروبية.
لفكرة مراكز الإيواء هذه مزايا كثيرة. أولها معالجة مسألة الهجرة عن بعد، أي بعيداً عن الأراضي الأوروبية، ما يحدّ عموماً من الضغط على الدول الأوروبية. ثانيها، إيواء مهاجرين في هذه المراكز المختصة يعني أن احتمالات عودتهم يوماً إلى بلدانهم الأصلية أقوى من احتمالات عودتهم إن وطئت أقدامهم تراب الاتحاد الأوروبي. ثالثها التقليل من تأثيرات وضغوط الرأي العام الأوروبي المنقسم بشأن مسألة الهجرة، فجزء منها يعيب على أوروبا، دولاً واتحاداً، التهرّب من مسؤولياتها الإنسانية، بينما يعيب عليها جزء آخر استقبالها المهاجرين على حساب مصالح المواطنين الأوروبيين، حيث توجد أوروبا بين مطرقة التيارات القائلة بالقيم الإنسانية وبالتضامن والتيارات المتطرفة المعادية للأجانب عموماً. بدعمها وتمويلها فتح مراكز إيواء بعيداً عن ترابها، تحد أوروبا من هذه المعضلة، ومن هذه الضغوط. رابعها التخلص من العبء القيمي، لإيواء اللاجئين في مثل هذه المراكز في أوروبا وكذلك من العبء الأمني. يتعلق العبء القيمي بتنديد بعض الجمعيات الحقوقية بظروف المعيشة، والمعاملة غير اللائقة للمهاجرين في هذه المراكز، فيما يتمثل العبء الأمني في تفادي بعض الأعمال الإجرامية، مثل إحراق متطرفين يمينيين أحد مراكز إيواء اللاجئين في ألمانيا. كما يتمثل في تورّط مهاجرين في بعض الاعتداءات، كما حدث في مدينة كولون الألمانية، أو تسلل عناصر إرهابية في صفوف اللاجئين القادمين إلى أوروبا، والقيام بعمليات إرهابية، كما وقع مع تفجيرات باريس. خامسها، ربط دول جنوب المتوسط بآليات أوروبية محلية بإدماجها في هذه الأخيرة، بشكلٍ
يجعلها تنخرط في سياسات أوروبية، من دون أن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي، وتقبل بالمناولة، لاسيما الأمنية في مجال الهجرة. سادسها، إجبار دول جنوب المتوسط على مزيد من التشدد في محاربة الهجرة، وإلا ستتحمل مزيداً من التبعات في هذا المجال، خصوصاً أن أوروبا تسعى إلى فرض اتفاقاتٍ عليها، تُجبر بموجبها على استقبال المهاجرين المرحلين من أوروبا، حتى ولم يكونوا من رعاياها. وبهذا، تكون دول العبور مسؤولة بالأساس عن وصول المهاجرين إلى الأراضي الأوروبية. سابعها، الحد من الإنفاق على المهاجرين، ذلك أن تكاليف مراكز الإيواء أقل من تكاليف التكفل بهم في أوروبا، فضلاً عن التبعات السياسية والاجتماعية. ثامنها، تسهل هذه المراكز عملية ثانية، وهي العمل على إدماج هؤلاء المهاجرين، سواء الذين لم يغادروا بعد إلى أوروبا، أو الذين رحلوا منها.
بالطبع، صيغة مراكز الإيواء ثنائية البعد، لأن الاتفاق عليها يكون بين الاتحاد الأوروبي والبلد المعني. لكن، مع تفاقم تدفقات المهاجرين واللاجئين، تسعى دول أوروبية إلى إيجاد صيغة "جماعية" لمعالجة المشكلة. إذ يعمل بعضها على إشراك الدول المغاربية في مواجهة تدفق المهاجرين من ليبيا نحو إيطاليا. والهدف الأوروبي هو فتح مراكز لإيواء اللاجئين المرحلين من إيطاليا في دول مغاربية، ومساعدتها في إدماج هؤلاء. يعني هذا تحميل الدول المغاربية تبعات الأزمة الليبية، وتحديداً التدخل الغربي، بتزكيةٍ وشرعنةٍ عربيتين، في ليبيا. والملاحظ، هنا، أن الأطراف العربية التي لعبت الأدوار السياسية الأولى في هذا التدخل لا تتحمل إطلاقاً عبء اللاجئين.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي يريد استنساخ الاتفاق مع تركيا، ببتره من شق المقايضة (لاجئ مرحّل مقابل لاجئ يدخل الاتحاد وفق صيغة معدة مسبقاً) وتعميمه في المنطقة، بدعوى أن جحافل المهاجرين واللاجئين تجاوزت تماماً القدرات الاستيعابية للاتحاد الأوروبي ودوله. والهدف من تعميم هذا النموذج هو، كما جاء في السطور السابقة، مرتبط باحتمالات عودة المهاجرين واللاجئين إلى ديارهم، بعد تسوية الأمور في بلدانهم الأصلية التي هي أقوى من احتمالات عودتهم، إن هم وصلوا إلى تراب الاتحاد الأوروبي.
هل ستقبل دول أخرى، مغاربية مثلا، باتفاق من نموذج الاتفاق الأوروبي-التركي؟ من الصعب الجزم في هذه المسألة. لكن، ما يمكن قوله إن الاتفاق الأخير هو نتائج اعتبارات خاصة بالعلاقة الأوروبية-التركية، وبمقايضات لا تتوفر، في معظمها، في العلاقة المغاربية-الأوروبية. سبق لدولة مغاربية أن فتحت مركزاً صغيراً لإيواء المهاجرين بتمويل إسباني. لكن، بالنظر إلى حيثيات العلاقة التركية-الأوروبية واعتباراتها، ودور تركيا في الصراع في سورية، فإن للاتفاق بينهما خصوصياته، واحتمالات استنساخه في المنطقة كما هو ضعيفة، فضلاً عن أن هذا الاتفاق على المحك، بسبب المماطلة الأوروبية في ما يخص الإيفاء بالوعود المالية، وتقلبات السياسية التركية المحلية والتحولات الإقليمية المتسارعة... إلا أن من المرجح أن يسعى الاتحاد الأوروبي إلى استنساخه في المنطقة، وفق صيغ معدلة لتكييفه ومتطلبات الوضع.
لفكرة مراكز الإيواء هذه مزايا كثيرة. أولها معالجة مسألة الهجرة عن بعد، أي بعيداً عن الأراضي الأوروبية، ما يحدّ عموماً من الضغط على الدول الأوروبية. ثانيها، إيواء مهاجرين في هذه المراكز المختصة يعني أن احتمالات عودتهم يوماً إلى بلدانهم الأصلية أقوى من احتمالات عودتهم إن وطئت أقدامهم تراب الاتحاد الأوروبي. ثالثها التقليل من تأثيرات وضغوط الرأي العام الأوروبي المنقسم بشأن مسألة الهجرة، فجزء منها يعيب على أوروبا، دولاً واتحاداً، التهرّب من مسؤولياتها الإنسانية، بينما يعيب عليها جزء آخر استقبالها المهاجرين على حساب مصالح المواطنين الأوروبيين، حيث توجد أوروبا بين مطرقة التيارات القائلة بالقيم الإنسانية وبالتضامن والتيارات المتطرفة المعادية للأجانب عموماً. بدعمها وتمويلها فتح مراكز إيواء بعيداً عن ترابها، تحد أوروبا من هذه المعضلة، ومن هذه الضغوط. رابعها التخلص من العبء القيمي، لإيواء اللاجئين في مثل هذه المراكز في أوروبا وكذلك من العبء الأمني. يتعلق العبء القيمي بتنديد بعض الجمعيات الحقوقية بظروف المعيشة، والمعاملة غير اللائقة للمهاجرين في هذه المراكز، فيما يتمثل العبء الأمني في تفادي بعض الأعمال الإجرامية، مثل إحراق متطرفين يمينيين أحد مراكز إيواء اللاجئين في ألمانيا. كما يتمثل في تورّط مهاجرين في بعض الاعتداءات، كما حدث في مدينة كولون الألمانية، أو تسلل عناصر إرهابية في صفوف اللاجئين القادمين إلى أوروبا، والقيام بعمليات إرهابية، كما وقع مع تفجيرات باريس. خامسها، ربط دول جنوب المتوسط بآليات أوروبية محلية بإدماجها في هذه الأخيرة، بشكلٍ
بالطبع، صيغة مراكز الإيواء ثنائية البعد، لأن الاتفاق عليها يكون بين الاتحاد الأوروبي والبلد المعني. لكن، مع تفاقم تدفقات المهاجرين واللاجئين، تسعى دول أوروبية إلى إيجاد صيغة "جماعية" لمعالجة المشكلة. إذ يعمل بعضها على إشراك الدول المغاربية في مواجهة تدفق المهاجرين من ليبيا نحو إيطاليا. والهدف الأوروبي هو فتح مراكز لإيواء اللاجئين المرحلين من إيطاليا في دول مغاربية، ومساعدتها في إدماج هؤلاء. يعني هذا تحميل الدول المغاربية تبعات الأزمة الليبية، وتحديداً التدخل الغربي، بتزكيةٍ وشرعنةٍ عربيتين، في ليبيا. والملاحظ، هنا، أن الأطراف العربية التي لعبت الأدوار السياسية الأولى في هذا التدخل لا تتحمل إطلاقاً عبء اللاجئين.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي يريد استنساخ الاتفاق مع تركيا، ببتره من شق المقايضة (لاجئ مرحّل مقابل لاجئ يدخل الاتحاد وفق صيغة معدة مسبقاً) وتعميمه في المنطقة، بدعوى أن جحافل المهاجرين واللاجئين تجاوزت تماماً القدرات الاستيعابية للاتحاد الأوروبي ودوله. والهدف من تعميم هذا النموذج هو، كما جاء في السطور السابقة، مرتبط باحتمالات عودة المهاجرين واللاجئين إلى ديارهم، بعد تسوية الأمور في بلدانهم الأصلية التي هي أقوى من احتمالات عودتهم، إن هم وصلوا إلى تراب الاتحاد الأوروبي.
هل ستقبل دول أخرى، مغاربية مثلا، باتفاق من نموذج الاتفاق الأوروبي-التركي؟ من الصعب الجزم في هذه المسألة. لكن، ما يمكن قوله إن الاتفاق الأخير هو نتائج اعتبارات خاصة بالعلاقة الأوروبية-التركية، وبمقايضات لا تتوفر، في معظمها، في العلاقة المغاربية-الأوروبية. سبق لدولة مغاربية أن فتحت مركزاً صغيراً لإيواء المهاجرين بتمويل إسباني. لكن، بالنظر إلى حيثيات العلاقة التركية-الأوروبية واعتباراتها، ودور تركيا في الصراع في سورية، فإن للاتفاق بينهما خصوصياته، واحتمالات استنساخه في المنطقة كما هو ضعيفة، فضلاً عن أن هذا الاتفاق على المحك، بسبب المماطلة الأوروبية في ما يخص الإيفاء بالوعود المالية، وتقلبات السياسية التركية المحلية والتحولات الإقليمية المتسارعة... إلا أن من المرجح أن يسعى الاتحاد الأوروبي إلى استنساخه في المنطقة، وفق صيغ معدلة لتكييفه ومتطلبات الوضع.