01 نوفمبر 2024
حين تدشّن الحكومة التونسية مقهى...
ليست نكتةً، ولا إشاعةً، ولا هو خبر زائف يقف وراءه الصائدون في المياه العكرة. هذا نبأ حقيقي، نزل على وسائل الإعلام التونسية، فصوّرته الكاميرات وسجّلته الميكروفونات ودوّنته الأقلام ونشرته الصحف الورقية والإلكترونية وتداولته الصفحات الافتراضية الكبرى. ستة وزراء ينتمون إلى حكومة الحبيب الصيد، من بينهم وزراء المالية والصحة والتربية، ومجموعة من نواب حركة "نداء تونس"، الحزب الحاكم الأغلبي، ومستشار لدى رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، ومدير ديوانه، ونجله المؤتمن على حزب النداء، ينزلون مساء يوم 10 يونيو/ حزيران 2016 على منطقة ضفاف البحيرة في أحواز تونس الشمالية ضيوفاً، لحضور تدشين مقهى يملكه أحد قيادات "النداء"، وتتولى ذلك وزيرة السياحة التونسية رسمياً.
تبريرات كثيرة قدّمها أعضاء الحكومة الأجلاء المحتفون بالمقهى الجديد لإقناع الرأي العام بجدوى احتفاليتهم وبهجتهم، وتدافعهم إلى تذوق حلو مذاق المشروبات والحلويات التي قدّمت لهم، وأهمية المكان الذي أبهرهم واجتذبهم، فحدثّوه عن المشروع الاقتصادي المهم والممتاز الذي يشكّل إحدى أولويات الحكومة، ودوره في الاستثمار وتنشيط السياحة الداخلية، وعن تشغيله اليد العاملة في زمن وفرة البطالة، وعن دور الشباب في التنمية الاقتصادية، باعتبار أن صاحبه من الباعثين الشبان، فهو الأمين العام الوطني المكلف بالشباب في حزب "نداء تونس".
لم يثر ذلك الحضور وتلك التصريحات حفيظة الجمهور الواسع فقط، وإنما جعل الحكومة التونسية، ولا سيما الوزراء الذين حضروا، موضع تندر وسخرية واستهزاء، وتحوّل الخبر فعلاً إلى نكتةٍ، تؤثث المجالس الرمضانية في مختلف المدن التونسية في البيوت والمقاهي والمنتديات السياسية والمسامرات الدينية، بعد أن عجّت به النقاشات والتعليقات الفيسبوكية.
وقد استحضر التونسيون، وهم يتابعون هذا الخبر الفريد، تصريحات رئيس الدولة ووعود حزبه الانتخابية، وخصوصاً قدرته على تشكيل أربع حكومات، لما يزخر به من الكفاءات والخبرات والموارد البشرية، فإذا به ينكمش، فتجتمع حكومته في قاعة شاي احتفالاً بها منجزاً عدّه المتابعون تندّراً أحد المشاريع الكبرى، التي تستدعي الاحتفاء والتكريم الحكومي.
وقد يكون التهافت للحضور إلى هذا المقهى الذي تعكس فخامة مبناه، والأموال الطائلة التي أنفقت في تشييده وتأثيثه وترميزه على النمط العتيق لقصور مدينة تونس العثمانية، وديار كبار قادتها السياسيين والعسكريين، من نفر من الحكومة، يعكس رغبة جامحة في العيش لحظة احتفالية بمشروعٍ كبير بُشّر به، ولم يتحقق، أو التخلص من عقدة ذنبٍ متأتيةٍ من الوعود الانتخابية الندائية السخية الكاذبة، على غرار تحقيق نسب نمو لا تقل عن الخمسة بالمائة، وإنجاز آلاف الكيلومترات من الطرق السيارة والسكك الحديدية، وتشغيل مئات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل ومن أصحاب الشهادات العليا، وشحن خزينة الدولة التونسية بعشرات المليارات من الدنانير، فإذا بالبلاد تجد نفسها على حافّة الإفلاس في زمن الحكم الندائي السعيد.
وفي حين اتسع خيال أصحاب المقهى والمحتفين بافتتاحه من الطاقم الحكومي، فرأوا في تدشين قاعة الشاي التونسية التقليدية في مدينة البحيرة "الحداثية" تعايشاً بين الماضوية والتقدم، أو بين الأصالة والمعاصرة، أو بين التقليد والحداثة، وتوطيناً وتقريباً لنوع من الخدمات كانت تحتكرها مدينة تونس العتيقة، في فضاءٍ حضريٍّ سكنته من المشتغلين بالسفارات والمنظمات الدولية، ومن أهل المال والأعمال، ومن الطبقات الثرية والبورجوازية المتماهية مع نمط العيش الأوروبي، في محاولةٍ مستحيلة لإعادة المقهى إلى لحظة نشأته الأولى، فضاءً أرستقراطياً عصياً عن الفئات الشعبية. ذهب المخيال الشعبي الفسيح إلى المقارنة بين ما تدشّنه حكومات أخرى في العالم من مشاريع ملحمية وأسطورية، مثل نفق غوتهارد السويسري الأطول في العالم، أو مدينة الطاقة الشمسية في الصحراء المغربية، والمقهى الذي تدشّنه الحكومة الائتلافية، سخرية من الأقدار بالبلاد التونسية.
وفي كل الأحوال، فإن افتتاح هذا المقهى أرستقراطي المظهر والخدمات في جبّته التقليدية العتيقة على غرار مقاهي حاضرة تونس القديمة، من الوفد الحكومي، لن يجعل منه مقهىً أدبياً أو ثقافياً أو سياسياً أو نقابياً، مثل المقاهي التي جلست فيها يوماً النخب الوطنية، من أمثال عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد ومحمد علي الحامي وعلي الدوعاجي وغيرهم، وجعلتها منابر للنقاش والحوار وتبادل الأفكار والكتابة الأدبية والنضال السياسي والنقابي الصحافي، فقد كانت تلك المقاهي منغرسةً في محيطها الشعبي، منبثقة عنه مرآة عاكسة له ولقضاياه.
ولم يحزن التونسيون لخبر تدشين مقهىً يملكه كادر في الحزب الحاكم الأغلبي من رجال الدولة، فيه عودة إلى ممارساتٍ قديمةٍ صاحبت دولة الاستبداد، اعتقدت النخب الوطنية أنها قد ولّت، وتمثلت في المزج بين الحزب والدولة، وتقمص الأدوار وتبادلها، ولو كان ذلك بصفة فولكلورية رثّة، كما حدث اليوم، لكن حزنهم نابع من شحّ المشاريع الكبرى التي تستدعي التدشين والتمجيد والافتخار، ما جعل المقاهي موضوع افتتاح رسمي من دولة الحكومة.
ولعلّ ما جعل الخبر ينتشر بسرعة، طرافته، بل شذوذه إلى درجة الشكّ في مصداقيته، فالتونسيون لم يتوقعوا ألبتة أن تصل الميوعة السياسية ومستويات الفشل وتمريغ هيبة الدولة في الوحل إلى درجة أن يتهافت لفيفٌ من الوزراء والساسة ورجال الدولة على قاعة شاي، تدشيناً وإشادة ودعاية وتبشيراً، وأن يتزامن ذلك مع خطاب رئيس الدولة التونسية، الذي أعلن فيه عن فشل حكومة الحبيب الصيد، داعياً إلى تغييرها بحكومة وحدةٍ وطنيةٍ، انطلقت النقاشات في أوساط الطبقة السياسية والنقابية، وفي دوائر القرار والمتنفّذين ولوبيات المال والسياسة، لتشكيلها، ما أعطى الانطباع لدى نشطاء المجتمعين، المدني والسياسي، بأن إقامة حفل الاستقبال كان أقرب إلى إحياء مراسم وفاة الحكومة المعلن عن قرب حلّها منه إلى الاحتفال الحقيقي بالمقهى، رقم الكم ألف، في سجلّ مئات الآلاف من المقاهي وقاعات الشاي التونسية، في عملية قلبٍ للرمزيات والمعاني والدلالات، ناهيك عن أن شرب القهوة كثيراً ما يصاحب المآتم أيضاً.
تبريرات كثيرة قدّمها أعضاء الحكومة الأجلاء المحتفون بالمقهى الجديد لإقناع الرأي العام بجدوى احتفاليتهم وبهجتهم، وتدافعهم إلى تذوق حلو مذاق المشروبات والحلويات التي قدّمت لهم، وأهمية المكان الذي أبهرهم واجتذبهم، فحدثّوه عن المشروع الاقتصادي المهم والممتاز الذي يشكّل إحدى أولويات الحكومة، ودوره في الاستثمار وتنشيط السياحة الداخلية، وعن تشغيله اليد العاملة في زمن وفرة البطالة، وعن دور الشباب في التنمية الاقتصادية، باعتبار أن صاحبه من الباعثين الشبان، فهو الأمين العام الوطني المكلف بالشباب في حزب "نداء تونس".
لم يثر ذلك الحضور وتلك التصريحات حفيظة الجمهور الواسع فقط، وإنما جعل الحكومة التونسية، ولا سيما الوزراء الذين حضروا، موضع تندر وسخرية واستهزاء، وتحوّل الخبر فعلاً إلى نكتةٍ، تؤثث المجالس الرمضانية في مختلف المدن التونسية في البيوت والمقاهي والمنتديات السياسية والمسامرات الدينية، بعد أن عجّت به النقاشات والتعليقات الفيسبوكية.
وقد استحضر التونسيون، وهم يتابعون هذا الخبر الفريد، تصريحات رئيس الدولة ووعود حزبه الانتخابية، وخصوصاً قدرته على تشكيل أربع حكومات، لما يزخر به من الكفاءات والخبرات والموارد البشرية، فإذا به ينكمش، فتجتمع حكومته في قاعة شاي احتفالاً بها منجزاً عدّه المتابعون تندّراً أحد المشاريع الكبرى، التي تستدعي الاحتفاء والتكريم الحكومي.
وقد يكون التهافت للحضور إلى هذا المقهى الذي تعكس فخامة مبناه، والأموال الطائلة التي أنفقت في تشييده وتأثيثه وترميزه على النمط العتيق لقصور مدينة تونس العثمانية، وديار كبار قادتها السياسيين والعسكريين، من نفر من الحكومة، يعكس رغبة جامحة في العيش لحظة احتفالية بمشروعٍ كبير بُشّر به، ولم يتحقق، أو التخلص من عقدة ذنبٍ متأتيةٍ من الوعود الانتخابية الندائية السخية الكاذبة، على غرار تحقيق نسب نمو لا تقل عن الخمسة بالمائة، وإنجاز آلاف الكيلومترات من الطرق السيارة والسكك الحديدية، وتشغيل مئات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل ومن أصحاب الشهادات العليا، وشحن خزينة الدولة التونسية بعشرات المليارات من الدنانير، فإذا بالبلاد تجد نفسها على حافّة الإفلاس في زمن الحكم الندائي السعيد.
وفي حين اتسع خيال أصحاب المقهى والمحتفين بافتتاحه من الطاقم الحكومي، فرأوا في تدشين قاعة الشاي التونسية التقليدية في مدينة البحيرة "الحداثية" تعايشاً بين الماضوية والتقدم، أو بين الأصالة والمعاصرة، أو بين التقليد والحداثة، وتوطيناً وتقريباً لنوع من الخدمات كانت تحتكرها مدينة تونس العتيقة، في فضاءٍ حضريٍّ سكنته من المشتغلين بالسفارات والمنظمات الدولية، ومن أهل المال والأعمال، ومن الطبقات الثرية والبورجوازية المتماهية مع نمط العيش الأوروبي، في محاولةٍ مستحيلة لإعادة المقهى إلى لحظة نشأته الأولى، فضاءً أرستقراطياً عصياً عن الفئات الشعبية. ذهب المخيال الشعبي الفسيح إلى المقارنة بين ما تدشّنه حكومات أخرى في العالم من مشاريع ملحمية وأسطورية، مثل نفق غوتهارد السويسري الأطول في العالم، أو مدينة الطاقة الشمسية في الصحراء المغربية، والمقهى الذي تدشّنه الحكومة الائتلافية، سخرية من الأقدار بالبلاد التونسية.
وفي كل الأحوال، فإن افتتاح هذا المقهى أرستقراطي المظهر والخدمات في جبّته التقليدية العتيقة على غرار مقاهي حاضرة تونس القديمة، من الوفد الحكومي، لن يجعل منه مقهىً أدبياً أو ثقافياً أو سياسياً أو نقابياً، مثل المقاهي التي جلست فيها يوماً النخب الوطنية، من أمثال عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد ومحمد علي الحامي وعلي الدوعاجي وغيرهم، وجعلتها منابر للنقاش والحوار وتبادل الأفكار والكتابة الأدبية والنضال السياسي والنقابي الصحافي، فقد كانت تلك المقاهي منغرسةً في محيطها الشعبي، منبثقة عنه مرآة عاكسة له ولقضاياه.
ولم يحزن التونسيون لخبر تدشين مقهىً يملكه كادر في الحزب الحاكم الأغلبي من رجال الدولة، فيه عودة إلى ممارساتٍ قديمةٍ صاحبت دولة الاستبداد، اعتقدت النخب الوطنية أنها قد ولّت، وتمثلت في المزج بين الحزب والدولة، وتقمص الأدوار وتبادلها، ولو كان ذلك بصفة فولكلورية رثّة، كما حدث اليوم، لكن حزنهم نابع من شحّ المشاريع الكبرى التي تستدعي التدشين والتمجيد والافتخار، ما جعل المقاهي موضوع افتتاح رسمي من دولة الحكومة.
ولعلّ ما جعل الخبر ينتشر بسرعة، طرافته، بل شذوذه إلى درجة الشكّ في مصداقيته، فالتونسيون لم يتوقعوا ألبتة أن تصل الميوعة السياسية ومستويات الفشل وتمريغ هيبة الدولة في الوحل إلى درجة أن يتهافت لفيفٌ من الوزراء والساسة ورجال الدولة على قاعة شاي، تدشيناً وإشادة ودعاية وتبشيراً، وأن يتزامن ذلك مع خطاب رئيس الدولة التونسية، الذي أعلن فيه عن فشل حكومة الحبيب الصيد، داعياً إلى تغييرها بحكومة وحدةٍ وطنيةٍ، انطلقت النقاشات في أوساط الطبقة السياسية والنقابية، وفي دوائر القرار والمتنفّذين ولوبيات المال والسياسة، لتشكيلها، ما أعطى الانطباع لدى نشطاء المجتمعين، المدني والسياسي، بأن إقامة حفل الاستقبال كان أقرب إلى إحياء مراسم وفاة الحكومة المعلن عن قرب حلّها منه إلى الاحتفال الحقيقي بالمقهى، رقم الكم ألف، في سجلّ مئات الآلاف من المقاهي وقاعات الشاي التونسية، في عملية قلبٍ للرمزيات والمعاني والدلالات، ناهيك عن أن شرب القهوة كثيراً ما يصاحب المآتم أيضاً.