الفرح
كل هذا الفرح حولك، والناس يضحكون ويمرحون، ليس إلا لسببٍ بسيط، هو أن الفرح طاقة معدية، مثل الحزن. وأنت عندما تخرج من بيتك مرتدياً أزهى ثيابك، ومنتشياً بعطرك، وقد أحكمت رباط عنقك الذي ترتديه نادراً، وتتوجّه إلى قاعة عرس، فأنت تكون قد أضمرت في نفسك رغبةً بالفرح، وتنسلخ تدريجياً عن العالم الخارجي، على الرغم من أنه عالمك الحقيقي.
جالت بذاكرتي أحداث فيلم "الفرح"، والذي حاز عدة جوائز في الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان المركز الكاثوليكي، لأنه تناول طبيعة الأفراح الشعبية، وعوالم داخلية للمدعوين، وأصحاب الفرح، بطريقةٍ واقعيةٍ وحقيقية. عندما كنت في حفل زفاف، في ليلة الجمعة التي شهدت الانقلاب الفاشل في تركيا، مرّت بي بعض أحداث الفيلم، ورأيتها في الواقع، ففي وقت كان العالم مشغولاً بأخبار الانقلاب، كانت جموع في قاعات واسعة ومغلقة، تمتد كأفعى ملتوية الأطراف على شاطئ البحر، حيث الوجه المشرق للمدينة، وحين كان المارّة وراكبو السيارات السريعة يتبادلون الآراء، وينقسمون بين مؤيد ومعارض للانقلاب، كان العالم الآخر في هذه القاعات يواجه انقلاباتٍ نفسيةً متباينة، خفية وظاهرة، ويتغلب عليها وينتصر وينهزم.
على مرمى بصري، كانت أم العريس تجاهد لتبدو سعيدةً، لأن ذلك اليوم كان فرحة عمرها، لكن شقيقتها كانت تصارع الموت في المستشفى، وكان المدعوون من الأقارب والأحباب يرغمونها على الضحك والمرح، من أجل أن تعيش هذه الساعات التي طالما حلمت بها. ولكي لا ينعكس حزنها على العروسين، وظلت تغالب دموعها مع كل فقرةٍ جديدةٍ من فقرات العرس، فكانت الأم تقوم بدور خالد الصاوي في الفيلم، والذي أخفى خبر وفاة أمه، ليتم الفرح الوهمي الذي أقامه في الحارة، لكي يجمع "النقوط" من المدعوين، ويشتري سيارة ميكروباص، يصلح بها أموره المادية المتعثرة، وكما لم يعجب الأمر زوجته، وطلبت الطلاق، فكانت شقيقة أم العريس تجلس في ركنٍ منزوٍ من القاعة، تبكي بلا انقطاع، محتجة على وجودها في هذا المكان، لمجاملة أختها الكبرى، في وقتٍ كان يتوجب عليها أن تكون مع الشقيقة الوسطى التي تصارع الموت، في غرفةٍ باردةٍ في أحد المستشفيات الحكومية الشحيحة الرعاية.
تحت قدمي العروس، كانت تجلس أختها الكبرى، عرفت ذلك من همس المدعوات، وكانت تضحك ضحكةً مبتورةً، وتلوك العلك بعصبيةٍ خفية، أدركتُ أن ألماً كبيراً يجول في نفسها، لأن شقيقتها الصغرى تتزوّج قبلها، ورأيت بصرها يلاحق النادل الوسيم الذي يدفع كعكة العروسين نحو المنصّة، فيما تعلق بصره هو بمصورة الفيديو المعروفة في المنطقة بسوء سمعتها، والتي فاتها قطار الزواج.
تجولت بين الطاولات، بعد أن اخترقت الحراسة أمام باب القاعة، والتي لا تسمح بدخول سوى المدعوين فتاة صغيرة تحمل علباً صغيرة من البسكويت، مدّتها نحو المدعوات، لكي يشترين منها، وتمنعن جميعاً، وأعرضن عن بضاعتها البخسة. تأملت البنت، فرأيت فيها أنوثة مبكّرة، وجمالاً لا يخفى، على الرغم من هيأتها الرثة. لا أدري لم رأيت في وجهها فلول مقاومةٍ أخيرة، مقاومة ذكر، حاول أن يعتدي عليها أو يغويها، تلك النظرة في عيني أي أنثى لا تفوتني، الأنثى التي تخرج للعمل مرغمةً، لأن لا حلول أمامها، ولأن سياطاً قدريةً تلهب ظهرها، كانت "سميرة بيرة" في فيلم "لفرح" مجسّدة على الأرض، فخشيت أن تنتهي حياة الفتاة بارتكابها جريمةً، بسبب رجل أيقظ أنوثتها، مثلما حدث في الفيلم.
أحكمت أم العريس شالها الأسود فوق رأسها، وسمحت لدموعها أن تنساب. وانسلت على عجلٍ من موكب العروسين الذي كان يزفهما إلى عشّ الزوجية، وأسرعت نحو أقرب سيارة. وفيما كان النهار يستعد للبزوغ من جهة البحر العريض، كان كل شيء قد انتهى. الانقلاب الفاشل في تركيا، الفرح المصطنع للأم، الفتاة التي نجت هذه المرة، ولن تنجو في مرة أخرى، ومصورة الفيديو التي انزوت بحديثٍ هامسٍ مع النادل، أما شقيقة العروس فقد حملها أحدهم، ووضعها على كرسي متحرّك، ومضي بها.