25 اغسطس 2024
إسقاط الأسد أمام الكنيسة في إدلب
لم تدم هناءتنا بالثورة السلمية طويلاً، ففي أواخر سنة 2011، وبينما كنا نتظاهر أمام جامع السعد في الجنوب الغربي من مدينة إدلب، إذ شاهدنا مجموعة من الشبان يرقصون على شكل حلقة، وينشدون عبارة "الشعب يريد تسليح الثوار". وخلال شهرين من هذه الحادثة، أصبحنا نسمع بأسماء الأشخاص الذين اشتروا بنادق وذخائر، وأصبحوا مسلحين على غرار ما حصل في حمص وجسر الشغور وغيرهما.
لم تكن عملية التسلح ناجمةً عن مشاورات، أو اتفاقٍ بيننا نحن الثوار، والذين اعترضوا على هذه الخطوة، وأنا منهم، ووجهوا بسيل من التبريرات المنطقية، في مقدّمتها أن النظام قَتَلَ، خلال الأشهر السابقة، عدداً كبيراً من الأهالي المتظاهرين، ولم يقدّم أية تنازلات أو إصلاحات، أضف إلى ذلك أن السجون زادت، والمعتقلين أصبحوا بمئات الألوف، وعمليات تمشيط المدن والبلدات من مخابرات النظام تترافق مع اغتصاب النساء، وشحط الرجال من بيوتهم، وكأنهم خرافٌ تساق إلى المسالخ.
ونتيجة هذا الوضع الجديد، وفي الفترة بين نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 ومارس/ آذار 2012، كان ثلثا مدينة إدلب قد أصبحا تحت سلطتنا نحن الثوار، بينما بقي ثلثُها المؤلف من شارع القصور وحارة الشيخ وطريق أريحا؛ أو ما عُرف باسم المربع الأمني، تحت سلطة النظام. ولم يكن أحدٌ من الطرفين ليُقْدِمَ على اجتياز منطقة الآخر، لئلا يحصل ما لا تحمد عقباه من اشتباكات. وحينما حدث ذلك الإقدامُ، مرةً، واتجهتْ مظاهرة قوامُها يزيد عن 25 ألف مواطن نحو القصر العدلي، مُضْمِرَةً اجتياحَ شارع القصور من طرفه الشمالي، وإسقاطَ تمثال الديكتاتور حافظ الأسد المنتصب أمام مبنى المحافظة، فَتَحَتْ ميليشياتُ النظام النار علينا، وقُتل أربعة شبان، وتفرّقت المظاهرة، على إثر ذلك، وهي غارقة بالدماء.
بناءً على هذا التقسيم للمدينة كنا ننام، نحن الناشطين الثوريين، في بيوتنا، بأمان، ونزور جرحانا في مشفى الهلال الأحمر الذي أصبح مخصّصاً للثوار، بينما المشفى الوطني للنظام، ونتحرّك بسياراتنا في مناطقنا، من دون أن يتمكّن النظامُ من إيذائنا.
في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2011، تفتقت أذهانُ مجموعة "أحفاد هنانو" والناشطين، مازن عرجة ومحمد أبو الدهب وأحمد مشقع وصلاح شامية وقتيبة أصفري، عن فكرة الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة أمام كنيسة الروم الأرثوذكس. ولأن المكان أمام الكنيسة ضيّق، اقترح أحدُ الأصدقاء أن يكون الاحتفال في ساحة البازار القريبة من الكنيسة، ونحن أيّدناه.
كانت ليلةً باردة جداً. لذلك، نصحتُ صديقي الأديب تاج الدين الموسى أن نغادر، أنا وهو، الاحتفالَ بعد ساعة من بدايته، باعتبار أنني مريضٌ بالقلب، وهو مصابٌ بسرطان الرئة، وقد استؤصلت إحدى رئتيه. ولكنه رفض فكرة المغادرة بشدة، قائلاً إن حلم حياته كان أن تقوم ثورة في سورية على حكم بيت الأسد، وأن يكون للثورة علاقة وطيدة بالسوريين كلهم. وأضاف:
- أنظر. ما أحلى هذا المنظر. المسلمون يحتفلون مع المسيحيين قرب كنيستهم. يا سلام. شي يرفع الراس. واليوم، لعلمك، اشترك عشرة شبان مسيحيين في مظاهرة بعد الظهر.
كان تاج عضواً في الحزب الشيوعي، "جناح يوسف الفيصل"، وكانت مشاركته في الثورة بصفته الشخصية، لا الحزبية، وكذلك الحال بالنسبة للمهندس ماجد حاج خلف الذي أعلن انشقاقه عن الحزب الشيوعي، لأن الحزب نأى بنفسه عن الثورة. وقد اعْتُقِلَ ماجد شهرين، تعرّض فيهما لتعذيبٍ وحشي.
في تلك الليلة، أصيبت رئةُ تاج الوحيدة بالتهاب حاد، ونُقل، في الصباح الباكر، إلى مشفى الهلال الأحمر، وكنا نزوره فنرى خراطيم الأكسجين في أنفه، بينما هو مُبْحِرٌ في اللابتوب، يتابع أخبار المظاهرات، ويحلم بسقوط نظام الأسد... واستمر هذا الوضع حتى يوم 22 فبراير/ شباط 2012، عندما فارق الحياة.
رحمه الله، وكل عام والثورة بخير.
لم تكن عملية التسلح ناجمةً عن مشاورات، أو اتفاقٍ بيننا نحن الثوار، والذين اعترضوا على هذه الخطوة، وأنا منهم، ووجهوا بسيل من التبريرات المنطقية، في مقدّمتها أن النظام قَتَلَ، خلال الأشهر السابقة، عدداً كبيراً من الأهالي المتظاهرين، ولم يقدّم أية تنازلات أو إصلاحات، أضف إلى ذلك أن السجون زادت، والمعتقلين أصبحوا بمئات الألوف، وعمليات تمشيط المدن والبلدات من مخابرات النظام تترافق مع اغتصاب النساء، وشحط الرجال من بيوتهم، وكأنهم خرافٌ تساق إلى المسالخ.
ونتيجة هذا الوضع الجديد، وفي الفترة بين نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 ومارس/ آذار 2012، كان ثلثا مدينة إدلب قد أصبحا تحت سلطتنا نحن الثوار، بينما بقي ثلثُها المؤلف من شارع القصور وحارة الشيخ وطريق أريحا؛ أو ما عُرف باسم المربع الأمني، تحت سلطة النظام. ولم يكن أحدٌ من الطرفين ليُقْدِمَ على اجتياز منطقة الآخر، لئلا يحصل ما لا تحمد عقباه من اشتباكات. وحينما حدث ذلك الإقدامُ، مرةً، واتجهتْ مظاهرة قوامُها يزيد عن 25 ألف مواطن نحو القصر العدلي، مُضْمِرَةً اجتياحَ شارع القصور من طرفه الشمالي، وإسقاطَ تمثال الديكتاتور حافظ الأسد المنتصب أمام مبنى المحافظة، فَتَحَتْ ميليشياتُ النظام النار علينا، وقُتل أربعة شبان، وتفرّقت المظاهرة، على إثر ذلك، وهي غارقة بالدماء.
بناءً على هذا التقسيم للمدينة كنا ننام، نحن الناشطين الثوريين، في بيوتنا، بأمان، ونزور جرحانا في مشفى الهلال الأحمر الذي أصبح مخصّصاً للثوار، بينما المشفى الوطني للنظام، ونتحرّك بسياراتنا في مناطقنا، من دون أن يتمكّن النظامُ من إيذائنا.
في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2011، تفتقت أذهانُ مجموعة "أحفاد هنانو" والناشطين، مازن عرجة ومحمد أبو الدهب وأحمد مشقع وصلاح شامية وقتيبة أصفري، عن فكرة الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة أمام كنيسة الروم الأرثوذكس. ولأن المكان أمام الكنيسة ضيّق، اقترح أحدُ الأصدقاء أن يكون الاحتفال في ساحة البازار القريبة من الكنيسة، ونحن أيّدناه.
كانت ليلةً باردة جداً. لذلك، نصحتُ صديقي الأديب تاج الدين الموسى أن نغادر، أنا وهو، الاحتفالَ بعد ساعة من بدايته، باعتبار أنني مريضٌ بالقلب، وهو مصابٌ بسرطان الرئة، وقد استؤصلت إحدى رئتيه. ولكنه رفض فكرة المغادرة بشدة، قائلاً إن حلم حياته كان أن تقوم ثورة في سورية على حكم بيت الأسد، وأن يكون للثورة علاقة وطيدة بالسوريين كلهم. وأضاف:
- أنظر. ما أحلى هذا المنظر. المسلمون يحتفلون مع المسيحيين قرب كنيستهم. يا سلام. شي يرفع الراس. واليوم، لعلمك، اشترك عشرة شبان مسيحيين في مظاهرة بعد الظهر.
كان تاج عضواً في الحزب الشيوعي، "جناح يوسف الفيصل"، وكانت مشاركته في الثورة بصفته الشخصية، لا الحزبية، وكذلك الحال بالنسبة للمهندس ماجد حاج خلف الذي أعلن انشقاقه عن الحزب الشيوعي، لأن الحزب نأى بنفسه عن الثورة. وقد اعْتُقِلَ ماجد شهرين، تعرّض فيهما لتعذيبٍ وحشي.
في تلك الليلة، أصيبت رئةُ تاج الوحيدة بالتهاب حاد، ونُقل، في الصباح الباكر، إلى مشفى الهلال الأحمر، وكنا نزوره فنرى خراطيم الأكسجين في أنفه، بينما هو مُبْحِرٌ في اللابتوب، يتابع أخبار المظاهرات، ويحلم بسقوط نظام الأسد... واستمر هذا الوضع حتى يوم 22 فبراير/ شباط 2012، عندما فارق الحياة.
رحمه الله، وكل عام والثورة بخير.