08 نوفمبر 2024
استقلال كتالونيا.. السيناريو الإسباني المرعب
تعيش إسبانيا على وقع زلزال سياسي لم تعش مثله منذ رحيل الجنرال فرانكو عام 1975، فالاستفتاءُ الذي جرى يوم الأحد المنصرم، وأحداثُ العنف التي واكبته بشكل غير مسبوق، ورفضُ الحكومة المركزية أي إجراءٍ يمس وحدة البلاد، واحتمالُ لجوئها إلى إقالة الحكومة وحل البرلمان في كتالونيا، واللهجةُ الحادة التي اتسم بها خطاب الملك فيليب السادس، واحتمال أن يعلن القوميون الاستقلال في أي لحظة، عوامل كلها تجعلنا أمام لحظة تاريخية ومفصلية قد تفضي إلى كابوس مرعب في إسبانيا.
إنه اختبار عسير تواجهه الديمقراطية الإسبانية التي يبدو أنها لم تستطع التخلصَ تماما من رواسب فرنكوية يمينية، ظلت كامنة في مؤسساتها السياسية والأمنية والاقتصادية الحيوية، الشيء الذي يعيد إلى الواجهة بعض القضايا التي فَضَّلَ الفرقاءُ السياسيون الإسبان تجنبَ الخوض فيها قبل أربعين عاما ونيف، إدراكا منهم أن استدعاءها، آنذاك، كان سيجهز على مشروع الانتقال الديمقراطي برمته، ويقبره إلى الأبد، في ظل قوة اليمين وسطوته.
أبرز هذه القضايا كان تدبير العلاقة بين الهوية الوطنية الإسبانية والهويات الإقليمية، فكان ثمن التنازل عن الخوض في طبيعة النظام السياسي الجديد الذي سيقام على أنقاض الفرنكوية، تنصيصَ دستور 1978 على مبدأ الحكم الذاتي في المناطق السبع عشرة التي تتألف منها إسبانيا، ما كان يعني، حينها، إقامة دولة مركبة عوض دولة موحدة أو بسيطة بلغة القانون الدستوري.
حسب كثيرين، كان ذلك خطأ تاريخيا كبيرا ارتكبته النخب الإسبانية خلال مرحلة الانتقال
الديمقراطي العسيرة (1975– 1982)، واليوم يدفع الإسبان ثمنه الباهظ من وحدة بلادهم ومستقبلها. كان لهذه المقتضيات المتعلقة بالحكم الذاتي تبعات عميقة، تمثلت في تنامي الخطابات الانفصالية المختلفة، وتجذُّرها في أكثر من منطقة، لاسيما في بلاد الباسك وكتالونيا. وبطبيعة الحال، كان للأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بالبلاد سنة 2008، وتفشي الفساد داخل العائلة الملكية والأحزاب والنخب، وتصاعد منسوب الخيبة والإحباط في صفوف الطبقة الوسطى، كان لكل ذلك أثره في تجذير الشعور القومي الكتالاني، ودفعه نحو خيار الانفصال. هذا طبعا من دون أن نغفل دور التاريخ في تغذية هذا الشعور. لا ينسى الكتالان ما حدث خلال الحرب الأهلية، حين تحولت مدينة برشلونة إلى إحدى الحلبات الأساسية في مواجهات الجمهوريين وقوات فرانكو، خصوصا خلال سنتي 1938 و1939 اللتين تعرّضت فيهما المدينة لقصف جوي مكثف ومتواصل. وبالطبع، كانت الكلفة البشرية لهذه المواجهات باهظة ومكلفة للغاية، وكان طبيعيا أن تتحول إلى مُغَذٍّ رمزي للذاكرة الكتالونية المعاصرة.
على ضوء ذلك كله، نفهم إصرار قطاع واسع من سكان الإقليم على فك الارتباط بمدريد، على الرغم من العيوب القانونية والسياسية الكثيرة التي أحاطت بعملية الاستفتاء، فالقانون الذي أقره البرلمان المحلي بشكل متسرع بداية الشهر الفائت، لم يعط الفرصة لجميع التشكيلات والأحزاب لمناقشته، ولم يخضع لمشاوراتٍ موسعةٍ تتجاوز النخب والدوائر المرتبطة بالأحزاب القومية نحو الرأي العام الكتالاني والإسباني بمختلف أطيافه. هذا فضلا عن أن التجارب المقارنة تفيد بأن أي استفتاء بالانفصال يجب أن يكون بتوافق كامل بين المنطقة أو الجهة المطالبة بالاستقلال، وحكومة الدولة التي تنتمي إليها، على اعتبار أن فك الارتباط يخص طرفين اثنين، لا طرفا واحدا.
ارتكبت الحكومة المحلية في برشلونة خطأ كبيرا، حين حولت الاستفتاء من شأن إسباني يخص الإقليم والدولة والمجتمع الإسبانيين إلى شأن كتالاني بحت، وكأن الأمر يتعلق بالاستقلال عن دولةٍ محتلة، هذا من دون أن نغفل المعسكر الكتالاني الآخر الذي يتألف ممن لا يرون أي تناقض في أن تتعايش الهويتان، الكتالانية والإسبانية، في الإقليم، وبالتالي يرفضون الاستقلال، على الرغم من الضغوط الكبيرة التي يتعرّضون لها من الانفصاليين، تصل في أحيان كثيرة إلى درجة الترهيب والتخوين.
أكثر من ذلك، حتى داخل معسكر القوميين، هناك انقسام واضح بشأن طريقة تدبير الانفصال. ففي استطلاع رأي أنجزته صحيفة 'الباييس، في بداية الشهر المنصرم (سبتمبر/ أيلول)، عبر حوالي 82% من المستجوبين عن معارضتهم الاستفتاء في شكله الحالي، والذي يجب أن يكون محل مشاورات موسعة بين الطرفين.
وجاء التصريح غير المتوقع للفنان والموسيقي والشاعر الكتالاني الشهير، جُوان مانويل صيرَّاط، ليطرح الوجه الآخر للقضية الكتالانية، حين اعترض على طريقة تدبير الحكومة المحلية للاستفتاء، والتي اعتبرها غير شفافة، ومن شأنها أن تُحدث تصدّعا مجتمعيا في الإقليم. كان لهذا التصريح وقع كبير داخل المعسكرين المتواجهين في معركة الاستفتاء على الاستقلال، بالنظر إلى مكانة الرجل داخل الثقافة الكتالانية المعاصرة، وتاريخه النضالي في مواجهة نظام فرانكو في بداية السبعينيات.
وعلى الرغم من ذلك، تظل الحكومة المركزية في مدريد مسؤولة، بشكل كبير، عما يمكن أن
تؤول إليه الأوضاع في كتالونيا، خصوصا بعد أحداث يوم الأحد الماضي، وقد كان مصيبا إلى حد كبير المفكرُ والمؤرخُ الإسباني، خوصي ألباريث خونكو، حين اعتبر، في مقابلة تلفزيونية، أن الانفصاليين ربحوا معركة الصورة، بعد مشاهد التعنيف الذي تعرض له مئات الكتالان على أيدي قوات الحرس المدني الإسباني، في تدخلاتها لعرقلة عملية التصويت ومصادرة صناديق الاقتراع.
تشبثُ حكومة مدريد بعدم دستورية الاستفتاء، واستنكافُها عن الدخول في حوار جدي مع رئيس الحكومة الإقليمية كارليس بيغديمونت، وانعدامُ خيارات واضحة لدى رئيسها، مانويل راخويْ، لحل الأزمة، ذلك كله يجعل مسؤوليتها كبيرة، ذلك أن فك الارتباط بين إسبانيا وكتالونيا سيشرع الباب أمام حركات انفصالية أخرى، لا سيما في بلاد الباسك وغاليثيــا، وسيعرّض وحدة البلاد (إسبانيا التاريخية) للتفكّك، ناهيك عن أن ذلك سيدفع سؤال الملكية ومستقبلها في إسبانيا إلى الواجهة. فإذا كانت المادة 56 من الدستور تنص، في فقرتها الأولى، على ''أن الملكَ رئيسُ الدولة ورمزُ وحدتها واستمرارها''، فإن أي تطور قد يفضي إلى استقلال كتالونيا، ستدفع الملكيةُ الإسبانيةُ ثمنه بالتأكيد.
تتعالى الأصوات داخل إسبانيا مطالبةً رئيسَ الحكومة بالتحلي بالشجاعة، وتقديم استقالته، وفسح المجال أمام حكومةٍ وطنية قادرة على فتح حوار وطني شامل حول القضية الكتالانية، قبل أن تصل الأوضاع إلى نقطة اللاعودة، هذا إذا لم تكن قد وصلت إليه فعلا، في ضوء استمرار مظاهر العصيان المدني في الإقليم، وما يتردّد من أنباء عن نية البرلمان المحلي إعلان الاستقلال.
إنه اختبار عسير تواجهه الديمقراطية الإسبانية التي يبدو أنها لم تستطع التخلصَ تماما من رواسب فرنكوية يمينية، ظلت كامنة في مؤسساتها السياسية والأمنية والاقتصادية الحيوية، الشيء الذي يعيد إلى الواجهة بعض القضايا التي فَضَّلَ الفرقاءُ السياسيون الإسبان تجنبَ الخوض فيها قبل أربعين عاما ونيف، إدراكا منهم أن استدعاءها، آنذاك، كان سيجهز على مشروع الانتقال الديمقراطي برمته، ويقبره إلى الأبد، في ظل قوة اليمين وسطوته.
أبرز هذه القضايا كان تدبير العلاقة بين الهوية الوطنية الإسبانية والهويات الإقليمية، فكان ثمن التنازل عن الخوض في طبيعة النظام السياسي الجديد الذي سيقام على أنقاض الفرنكوية، تنصيصَ دستور 1978 على مبدأ الحكم الذاتي في المناطق السبع عشرة التي تتألف منها إسبانيا، ما كان يعني، حينها، إقامة دولة مركبة عوض دولة موحدة أو بسيطة بلغة القانون الدستوري.
حسب كثيرين، كان ذلك خطأ تاريخيا كبيرا ارتكبته النخب الإسبانية خلال مرحلة الانتقال
على ضوء ذلك كله، نفهم إصرار قطاع واسع من سكان الإقليم على فك الارتباط بمدريد، على الرغم من العيوب القانونية والسياسية الكثيرة التي أحاطت بعملية الاستفتاء، فالقانون الذي أقره البرلمان المحلي بشكل متسرع بداية الشهر الفائت، لم يعط الفرصة لجميع التشكيلات والأحزاب لمناقشته، ولم يخضع لمشاوراتٍ موسعةٍ تتجاوز النخب والدوائر المرتبطة بالأحزاب القومية نحو الرأي العام الكتالاني والإسباني بمختلف أطيافه. هذا فضلا عن أن التجارب المقارنة تفيد بأن أي استفتاء بالانفصال يجب أن يكون بتوافق كامل بين المنطقة أو الجهة المطالبة بالاستقلال، وحكومة الدولة التي تنتمي إليها، على اعتبار أن فك الارتباط يخص طرفين اثنين، لا طرفا واحدا.
ارتكبت الحكومة المحلية في برشلونة خطأ كبيرا، حين حولت الاستفتاء من شأن إسباني يخص الإقليم والدولة والمجتمع الإسبانيين إلى شأن كتالاني بحت، وكأن الأمر يتعلق بالاستقلال عن دولةٍ محتلة، هذا من دون أن نغفل المعسكر الكتالاني الآخر الذي يتألف ممن لا يرون أي تناقض في أن تتعايش الهويتان، الكتالانية والإسبانية، في الإقليم، وبالتالي يرفضون الاستقلال، على الرغم من الضغوط الكبيرة التي يتعرّضون لها من الانفصاليين، تصل في أحيان كثيرة إلى درجة الترهيب والتخوين.
أكثر من ذلك، حتى داخل معسكر القوميين، هناك انقسام واضح بشأن طريقة تدبير الانفصال. ففي استطلاع رأي أنجزته صحيفة 'الباييس، في بداية الشهر المنصرم (سبتمبر/ أيلول)، عبر حوالي 82% من المستجوبين عن معارضتهم الاستفتاء في شكله الحالي، والذي يجب أن يكون محل مشاورات موسعة بين الطرفين.
وجاء التصريح غير المتوقع للفنان والموسيقي والشاعر الكتالاني الشهير، جُوان مانويل صيرَّاط، ليطرح الوجه الآخر للقضية الكتالانية، حين اعترض على طريقة تدبير الحكومة المحلية للاستفتاء، والتي اعتبرها غير شفافة، ومن شأنها أن تُحدث تصدّعا مجتمعيا في الإقليم. كان لهذا التصريح وقع كبير داخل المعسكرين المتواجهين في معركة الاستفتاء على الاستقلال، بالنظر إلى مكانة الرجل داخل الثقافة الكتالانية المعاصرة، وتاريخه النضالي في مواجهة نظام فرانكو في بداية السبعينيات.
وعلى الرغم من ذلك، تظل الحكومة المركزية في مدريد مسؤولة، بشكل كبير، عما يمكن أن
تشبثُ حكومة مدريد بعدم دستورية الاستفتاء، واستنكافُها عن الدخول في حوار جدي مع رئيس الحكومة الإقليمية كارليس بيغديمونت، وانعدامُ خيارات واضحة لدى رئيسها، مانويل راخويْ، لحل الأزمة، ذلك كله يجعل مسؤوليتها كبيرة، ذلك أن فك الارتباط بين إسبانيا وكتالونيا سيشرع الباب أمام حركات انفصالية أخرى، لا سيما في بلاد الباسك وغاليثيــا، وسيعرّض وحدة البلاد (إسبانيا التاريخية) للتفكّك، ناهيك عن أن ذلك سيدفع سؤال الملكية ومستقبلها في إسبانيا إلى الواجهة. فإذا كانت المادة 56 من الدستور تنص، في فقرتها الأولى، على ''أن الملكَ رئيسُ الدولة ورمزُ وحدتها واستمرارها''، فإن أي تطور قد يفضي إلى استقلال كتالونيا، ستدفع الملكيةُ الإسبانيةُ ثمنه بالتأكيد.
تتعالى الأصوات داخل إسبانيا مطالبةً رئيسَ الحكومة بالتحلي بالشجاعة، وتقديم استقالته، وفسح المجال أمام حكومةٍ وطنية قادرة على فتح حوار وطني شامل حول القضية الكتالانية، قبل أن تصل الأوضاع إلى نقطة اللاعودة، هذا إذا لم تكن قد وصلت إليه فعلا، في ضوء استمرار مظاهر العصيان المدني في الإقليم، وما يتردّد من أنباء عن نية البرلمان المحلي إعلان الاستقلال.