السيسي ليس مستبداً
لو أنفق عبد الفتاح السيسي ربع الجهد المبذول في حفر آبار الدجل والخرافة، وتوسعة قنوات الكراهية المجتمعية والقبح، في ملف أزمة نهر النيل، لما وصلنا إلى مرحلة الوقوف على حافّة المجاعة المائية.
أدرك العالم كله، مع انقلاب السيسي على الحكم المنتخب، أن هذه هي اللحظة المواتية لكل من له مطمع في شيء يخص مصر، ذلك أنهم، منذ البداية، أيقنوا أن الشغل الشاغل له، ولنظامه، هو تثبيت سلطته، والتفرغ لقتل وسحق كل من يمثل تهديداً لعرشه، فعرفوا كيف يقتنصون ما يريدون، وهم واثقون من الفوز بالحصيلة.
منذ البداية، كان واضحاً أن الجنرال مستعد لبيع كل شيء، كي يشتري السلطة، والتفريط في كل حق تاريخي أو جغرافي، لقاء تأمين بقائه في هذه السلطة، فكان نهر النيل بالنسبة له ليس إلا ممراً للوصول إلى التأييد الأفريقي لانقلابه، بعد أن أظهرت أنظمة عديدة في القارة السوداء عدم اعترافٍ بشرعية الانقلاب على المسار السياسي الديمقراطي في مصر.
قبل أفريقيا، كان السيسي مدركاً أن بقاءه يرتبط بالدعم الإسرائيلي الذي يصل إلى حد الحماية الكاملة، والرعاية الشاملة. ولذلك فتح أفريقيا أمام رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني، في حدث كان أشبه بانقلابٍ في محدّدات العلاقة بين أفريقيا والكيان الصهيوني، أو قل زلزالاً سياسياً عبر عنه بنيامين نتنياهو بالقول "إنني أخرج الآن في زيارة تاريخية في أفريقيا، نحن نفتح أفريقيا أمام إسرائيل من جديد".
بتلك العبارة، في يوليو/ تموز 2016، دشن "الفاتح"، بنيامين نتنياهو، حملته، وهو يشد الرحال إلى أفريقيا السمراء، محتفلاً بالعودة، منتشياً بالنصر. محمولاً فوق عربةٍ تجرها الخيول، وكما سجلت في ذلك الوقت، من هذه الخيول، عبد الفتاح السيسي، حاكم مصر النموذجي، وفقاً للمعايير والمواصفات الصهيونية.
اخيرا، كشفت الصحافة الصهيونية أن نتنياهو "فتح" قصر الاتحادية، حين تسلل إليه، سراً، في زيارة إلى عبد الفتاح السيسي، في أبريل/ نيسان 2016، ولم تمر أسابيع على الزيارة، حتى كان نتنياهو ينطلق في رحلة "فتح أفريقيا". وهنا أتساءل مرة أخرى: هل كانت مصادفةً أن يقال في صحافة الكيان الصهيوني، يوم توغل رئيس حكومتها في عمق أفريقيا، إن السيسي يعشق نتنياهو؟
في مسيرة التفريط، تمسكاً بالسلطة، كانت التنازلات تترى، واحدةً تلو الأخرى، النيل من أجل أثيوبيا، وجزيرتي تيران وصنافير من أجل السعودية، وغرق في الديون والقروض أمام الجهات الدولية المانحة، وتدمير منهجي لسيناء، وفي كل ذلك إسرائيل هي الرابح الأساس، ذلك أن"سعودة" جزيرتي تيران وصنافير مصلحة صهيونية، كما أن"حبشنة" نهر النيل حلم إسرائيلي قديم.
ويظل السؤال قائماً: ماذا فعل منذ استولى على الحكم سوى تربية الإرهاب وتسمينه، وتحويل البلاد إلى ساحةٍ للانفجارات، بفعل سياساتٍ خرقاء، تهين العسكرية المصرية، بالقدر نفسه الذي تحتقر به حق الشعب في الحياة؟.
لا شيء سوى أنهم أخذوا ذلك كله، ومنحوه صورة زائفة، لحاكم مستبدٍ، قوي، أو"رئيس دكر" بتعبير ماكينات إعلامه البذيء. لكن هل هو حقاً ذلك المستبد، المقتحم، المغوار، كما يصور نفسه في مؤتمراته الشبابية الهزلية؟
الحقيقة أن إطلاق وصف المستبد عليه يحمل إساءة لمفهوم الاستبداد، ويهين المستبدين التاريخيين. وعلى حد تعبير البستاني، كما ورد في كتاب الطاغية، للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، "ربما خلط البعض بين الطاغية والمستبد من الحكام فالبون بينهما عظيم، فالمستبد مـن تفرد برأيه واستقل به فقد يكون مصلحا يريد الخير ويأتيه، أما الطاغية فيستبد طبعا مسرفا في المعاصي والظلم، وقد يلجأ في طغيه إلى اتـخـاذ القوانين والشرائع سترا يتستر به، فـيـتـمـكـن مما يـطـمـح إلـيـه مـن الجـور والظلم والفتك برعيته، وهضم حقوقها. وقد يكيف فظائعه بقالب العدل، فيكون أشرّ الطغاة وأشدّهم بطشا بمن تناولتهم سـلـطـتـه. وقـد اخـتـصـت الأمم والكتبة لقب طاغية بالملوك، ولم يطلقوه على كل من طغى منهم".
بهذا المعيار، ليس السيسي مستبداً، بل طاغية، صنعوه وأطلقوه علينا، وكما قال الإغريق "الطاغية رجل يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع، فيمكن أن يكون قد اغتصب الحكم بالمؤامرات، أو الاغتيالات أو القهر أو الغلبة بطريقة ما. و باختصار، هو شخص لم يكن من حقه أن يحكم لو سارت الأمور سيرا طبيعيا، لكنه قفز إلى منصة الحكم عن غير طريق شرعي. وهو لهذا، يتحكّم في شؤون الناس بإرادته، لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواهن لا بشريعتهم. ويعلم من نفسه أنه الغاصب والمعتدي، فيضع كعب رجله في أفواه ملايين من الناس، لسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته.